في ممرات كلية الآداب بجامعة سوهاج، كان يوسف خلف الشاب المتفوق الذي تصدر قائمة أوائل دفعته، بقسم التاريخ والحضارة، ينتظر اليوم الذي يتحول فيه حلمه إلى واقع، ويصدر قرار تعيينه معيدا بالجامعة، التي شهدت سنوات كفاحه، لكن الحلم لم يكتمل، إذ اصطدم بجملة واحدة، قيلت له ببرود، أنت «غير لائق طبيا».
يوسف الذي أثارت واقعة رفض تعيينه حالة من الغضب بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن مجرد طالب مجتهد، بل قصة صبر استمرت أربع سنوات، كان فيها الأول على دفعته، حيث اجتاز جميع الامتحانات دون لجان خاصة أو استثناءات، ولم يطلب تكبير خط أسئلة الامتحانات، أو وقتا إضافيا، بل آمن أن العقل وحده يكفي كي يقف جنبا إلى جنب مع زملائه.
المثير للصدمة والدهشة أن قرار التعيين توقف عند مرحلة الكشف الطبي، حيث صادر طبيب العيون حلم يوسف، معلنا أن ضعف بصره الشديد، الناتج عن إصابته بحالة المهق (Albinism) – يجعله «غير لائق».
ما هو المهق؟
المهق أو الألبينزم حالة وراثية نادرة تحدث نتيجة غياب أو نقص صبغة الميلانين في الجلد والشعر والعينين، وتختلف نسب الإصابة عالميا، إذ تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن واحدا من كل 17 ألف شخص قد يولد مصابا بالمهق، الغياب الكلي للميلانين يجعل الألبينو أكثر عرضة لحساسية الجلد والشمس، وضعف شديد في الإبصار يتراوح بين قصر النظر والحول ورأرأة العين، لكن الأطباء يؤكدون أن المهق لا يؤثر على القدرات الذهنية أو العقلية، بل تظل قدرات التفكير والتعلم طبيعية تماما.
طب العيون يوضح أن الأشخاص المصابون بالمهق يواجهون صعوبات بصرية، لكن هذا لا يلغي قدرتهم على التعلم أو التدريس، الأمر يعتمد على توفير وسائل مساعدة بصرية أو ظروف مناسبة، لا حرمانهم من حقهم في العمل.
يوسف حاول أن يواجه القرار بالإجراءات القانونية، حيث قدم التماسا لمكتب رئيس الجامعة، لكن الرد كان: «قدم تظلما للقومسيون الطبي»، وعندما ذهب إلى اللجنة الطبية قيل له: «الاستمارة نهائية ولا يوجد بها تظلم».
ظل لأكثر من شهر يتنقل بين الجامعة والقومسيون الطبي بلا جدوى، وفي الوقت الذي بدأ زملاؤه استلام مهامهم التدريسية ظل هو واقفا عند نقطة الصفر.
يقول يوسف بمرارة: «إنهم يحاسبونني على شيء ليس لي فيه دخل، أنا لم أختر أن أكون ضعيف البصر، إذا كنت غير لائق في التدريس، في ماذا أكون لائق إذن؟ للعمل تحت الشمس مثلا، وأنا أصلا لا أحتملها؟».

بين طه حسين وستيفن هوكنج
قصة يوسف تعيد للأذهان أسماء خلدها التاريخ، رغم إعاقتها الجسدية، مثل طه حسين عميد الأدب العربي، الذي فقد بصره في طفولته، لكنه أنار عقول أجيال كاملة، وكذلك ستيفن هوكنج عالم الفيزياء الأشهر في القرن العشرين، الذي عاش مشلولا على كرسي متحرك لكنه غير فهمنا للكون.
السؤال الذي يطرحه يوسف هنا: «إذا كان هؤلاء قد غيروا العالم بعقولهم، فلماذا يتم حرماني من التدريس لأن عيني ضعيفتان؟».
القوانين المصرية.. هل تحمي ذوي الإعاقة؟
مصر أقرت قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 10 لسنة 2018، الذي يضمن لهم فرصا متكافئة في التعليم والعمل، وينص القانون بوضوح على تخصيص نسبة لا تقل عن 5% من الوظائف لهم في المؤسسات الحكومية، لكن ما يحدث في حالة يوسف يكشف عن فجوة بين النص القانوني والتطبيق العملي، حيث تستخدم «اللياقة الطبية» كعائق أمام الكفاءات، بدلا من أن تكون وسيلة لضمان سلامة أداء الوظيفة.
الأطباء النفسيون يؤكدون أن الصدمات الوظيفية المرتبطة بالتمييز قد تحدث آثارا نفسية عميقة، «رفض تعيين شخص بسبب إعاقة لا تؤثر على عقله ولا على جوهر عمله، يترك لديه إحساسا بالظلم والإقصاء، وقد يؤدي إلى فقدان الدافعية والإحساس بانعدام العدالة الاجتماعية».
شمعة لا تطفأ
رغم كل العقبات، يؤكد يوسف أنه لم ولن يستسلم: «أضأت حياتي بشمعة يضيئها عقلي وعزيمتي، لكن العالم يحاول أن يطفئها، أنا مؤمن أني على حق، وسأظل أناضل من أجل حقي».
قصة يوسف ليست مجرد صراع فردي، بل مرآة تكشف كيف تتعامل المؤسسات مع الأشخاص ذوي الإعاقة، وكيف تتحول البيروقراطية أحيانا إلى أداة لكسر الطموح بدلا من أن تكون جسرا لتحقيقه.
قضية يوسف ليست فقط قصة شاب ألبينو حرم من وظيفة يستحقها، بل قضية مجتمع يواجه امتحانا في العدالة، فهل يقيم الإنسان بعقله وإنجازه، أم تحجب الفرص بسبب نظرة سطحية إلى الجسد؟.