في حياةٍ بلا ضوءٍ واضحٍ يرشد الخطى، ولا صوتٍ يكسر حاجز الصمت، لم تغب عنه الرؤية، ولم ينطفئ عالمه، ظل يرى ببصيرته ما تعجز عنه العيون، ويسمع بقلبه بعد أن فقد السمع صغيرًا.
مصطفي عبد الغفار أول حكم دولي مصري للشطرج من مصابي متلازمة أشر، يروي قصته مع الإعاقة السمعبصرية والصعوبات التي واجهها، وكيف استطاع تجاوز سخرية زملاء المدرسة، ليصير في نهاية القصة بطلا ملهما لكل من يراه أو يسمع عنه.
يقول لـ ” جسور“: وُلدت لأرى العالم بطريقتي الخاصة، اقرأه بالصمت، منذ أن كنت رضيعًا لم يتجاوز عمري ستة أشالهر، داهمتني حمى شديدة تركت أثرها في سمعي، فبدأت رحلتي مع جلسات التخاطب وأنا عمري عامين، أتعلم كيف أعبّر دون صوت، وأسمع العالم بعينين مفتوحتين على الأمل.

لكن القدر لم يكتفِ بذلك، حين بلغت السادسة، بدأت أشعر بأن الليل لم يعد كما كان، الظلام صار كثيفًا والعالم من حولي يبهت في المساء، لم أدرِ وقتها أن تلك الأعراض كانت أولى خطوات متلازمة أشر في حياتي.
يضيف: دخلت المدرسة وأنا أتشبّث بيد أمي التي تعمل فيها، كنت أحتمي بحضورها من نظرات الآخرين، ومع ذلك، كان التنمّر رفيق أيامي الأولى، سخرية الزملاء كانت ثقيلة، تترك أثرها في القلب قبل الوجه، تعبت من نظرات الاستهزاء، فتركت المدرسة، وانتقلت إلى “مدرسة الأمل للصم”، وهناك وجدت نفسي أخيرًا، وبدأت أعيش عالمًا يشبهني، يتكلم بلغة أفهمها وهى لغة الإشارة، شعرت أنني بين أهلي.
الرسم على زجاج النوافذ كان صوتي
ويكمل مصطفي حديثه :” أكملت الإعدادية والثانوية في قسم الزخرفة، وكانت الصدمة أن كثيرين من زملائي لم يعرفوا القراءة أو الكتابة، حينها، قرر والداي أن يكونا مدرستي الحقيقية، فتعلمت منهما الحروف والمعاني، وبدأت أعبّر عن نفسي بالرسم، كنت أرسم على زجاج النوافذ وجدران المدرسة، وأشعر أن كل لوحة هي جزء من صوتي .

تخرّجت بنسبة 95% في الثانوية الفنية، وحلمت أن أتابع في كلية الفنون الجميلة، لكن أبي رفض، لأن الجامعة لم تكن تقدم موادها الدراسية بلغة الإشارة، كان ذلك في عام 2002، شعرت بالإحباط، لكن الله فتح لي بابًا آخر، وأخذني أبي إلى نادٍ للفنون، وهناك رأى المدير لوحاتي، فاندهش وأدخلني في معارض فنية، كنت أتنفس فيها من خلال الألوان.
لعبة الشطرنج بوابتي على الحياة
ويستطرد:” بدأت أيضًا أمارس رياضة الكاراتيه، حتى حصلت على المركز الثاني على مستوى المحافظة، وكنت أعلّم أصدقائي لعبة الشطرنج، تلك اللعبة التي أصبحت فيما بعد بوابة نوري إلى العالم، وفي عام 2006، التحقت بدورات في الحاسب الآلي، ثم عملت في شركة “أليانز للتأمين” عام 2007، كنت أتقن عملي وأجتهد، وبدأت أدرّب الآخرين.
وفي 2008 جاء زميل لأبي يُدعى الأستاذ سمير، كان يملك مركز تدريب، فبدأت أدرب أشخاصًا من السعودية على برامج الأوفيس، ثم سافروا إلى دبي عام 2015، ثم ماليزيا عام 2018، وكنت أنا المدرّب الذي يعلّم الصم كيف يطورون مهاراتهم ويثبتون قدرتهم.
يقول مصطفى، بعدها سافرت إلى مدن كثيرة، الأقصر، أسوان، شرم الشيخ، الغردقة، بورسعيد، العريش، دمياط، كفر الشيخ، الإسكندرية، مرسى مطروح، الفيوم، طنطا، المحلة، المنوفية، الساحل الشمالي، والزقازيق، كنت أبحث في السفر عن وجهي الحقيقي، عن حدود جديدة لا يضعها ضعف السمع أو البصر.
في شركتي كانوا يعرفون أنني أصم، لكن أحدًا لم يكن يعلم أن نظري يخبو شيئًا فشيئًا، حتى بدأت ملامح التعب تظهر في عينيّ مع مرور العمر، ورغم ذلك، شاركت في مسابقات الشركة في الشطرنج وكرة السلة والجري، ثم مثّلتها في بطولة الجمهورية للشطرنج بمرسى مطروح عام 2019 وسط 300 مشارك.
ويضيف: ثم جاء وباء كورونا، فشاركت عبر الإنترنت في فعاليات لجنة الشطرنج الدولية للصم في صربيا، وبعدها، قررت أن أدعم الصم في مصر للمشاركة في البطولات، ونظّمت أول بطولة لهم بدعم من شركتي، وحصلت علي المركز الأول، وكان ذلك بداية الحلم الكبير.
هنكمل سوا .. القدر أرسل لي زوجتي
وهناك، بدأت قصتي مع “آية” سمعت عنها من زميل يسكن بالقرب من بيتنا، حكى لي عن فتاة طيبة، هى لم تكن تعرف سوى أن بصري يضعف في الليل، وحين التقينا، شعرت بأن القدر أرسلها لتمسك بيدي، قالت لي: “هنكمّل سوا ونواجه أي حاجة”.

تزوجنا، واكتشفت فيها قلبًا لم أره في أحد من قبل، كانت تشاركني التعب والضحكة والبيت، وفي أحد الأيام، وأنا ذاهب إلى العمل، تعرّضت لحادثٍ كبير على الطريق، كانت هي من حملتني بالصبر حتى عدت إلى الحياة، لكن بعد ذلك بدأت رحلة جديدة مع المرض.
صدمة الإصابة بمتلازمة أشر
يكمل: لاحظت حينها أنني لم أعد أرى جيدًا، وأن خطواتي لم تعد متوازنة، أخبرني الطبيب أني مصاب بمياه بيضاء علي العين تحتاج إلى عملية، لكن حين ذهبت إلى طبيبة الشبكية، كشفت الحقيقة وهي أنني مصاب بمتلازمة أشر، مرض وراثي ناتج عن زواج الأقارب، يجعل السمع والبصر يضعفان مع الوقت.
كانت صدمة قوية، لكن آية لم تدعني أنهار، وعدتني حينها قائلة” “هنعوض كل الألم بالنجاح، وهتنجح في الشئ إللي بتحبه”.
شجّعتني على العودة إلى البطولات، نظمنا معًا أول بطولة شطرنج للصم، بدعم من أليانز، وفزت بالمركز الأول، وبعدها بدأت أشارك في بطولات الدمج مع الأشخاص العاديين، وسافرت إلى طنطا للمشاركة في بطولات ذوي الإعاقة مرتين.
ويكمل مصطفي كلماته بإبتسامة ورضا:” دخلت المرحلة الأجمل في حياتي وبقيت أب، ربنا رزقنا بميار بنتي الكبيرة، اللي اتعلمت لغة الإشارة من صغرها علشان تساعدني، كانت بتلبّسني الكوتشي والشبشب، وتفهمني من نظرة، وبعدها جت ماسه، فزاد البيت نور وحب “.
ويستطرد مصطفى:” في العام الماضي، سافرت إلى صربيا وحدي دون مرافق، لأشارك في بطولة دولية للشطرنج، ثم التحقت بدورة تحكيم، ونلت 72%، لأكون أول شخص مصاب بمتلازمة أشر يحصل على هذه الشهادة في مصر، وحاليا أقوم بتدريب أطفال الصم على الشطرنج، وأحاول مساعدة غيري أن يعيش التجربة الجميلة التي عيشتها.
وعن رسالته لكل من مرورا بمثل ظروفه يقول:” الحياة مليئة بالتحديات ، لكنها أيضا مليئة بالفرص والبطل الحقيقي الذي لا يترك فرصة للنجاح مهما كانت تحدياته”.


.png)


















































