رغم أن شلل الأطفال اختفى فعليًا من معظم بقاع العالم حتى أن أكثر من 190 دولة أعلنت خلوها التام من هذا الفيروس المدمّر إلا أن دولتي باكستان وأفغانستان ما زالتا تحتفظان بالصدارة على خريطة المرض.
بقاء المرض بمعدلات مرتفعة لا يرجع لعدم فاعلية اللقاح، أو لأن الفيروس عصيّ على الطب، ولكن لعدة أسباب منها أن عاداتٍ بالية ومعتقداتٍ جاهلة ومعلومات مغلوطة حَكمت ولا تزال تحكم على أجيالٍ كاملة بالإعاقة.
في تلك المناطق، حيث تُقتل فرق التطعيم أو يُنظر إلى اللقاحات باعتبارها مؤامرة وتمنع الأمهات أبناءهن من التطعيم خوفًا من العقم أو”السحر” يستمر الفيروس في استهداف أجساد الأطفال وينزع منهم أبسط حقوقهم. العيش بأقدام تسير بشكل طبيعي.
احصائيات رسمية، منحنى بين انخفاض وارتفاع
تشير الإحصاءات إلى أن باكستان سجّلت خلال العقد الأخير تغيّرا كبيرًا في أعداد الإصابات. فبعد أن كانت الحالات في حدود 54 عام 2015، انخفضت إلى 8 فقط في 2017. ثم عادت للارتفاع المفاجئ إلى 145 إصابة في 2019 وهي أعلى حصيلة منذ سنوات. ورغم انخفاض الأعداد إلى 84 حالة في 2020. و66 في 2021 إلا أن الوضع لم يستقر طويلًا، إذ سُجّلت 74 حالة جديدة في 2024. وهو ما يمثل نحو ثلاثة أرباع الإصابات عالميًا في ذلك العام.
أما أفغانستان، فرحلتها مع المرض لم تكن أقل تغيّرا. إذ تراوحت الحالات بين 13 و29 إصابة سنويًا خلال النصف الأول من العقد مع ذروة بلغت 56 إصابة في 2020. بعدها تراجع الفيروس قليلاً وسجل 5 حالات فقط في 2021. ثم حالتين في 2022. ومع ذلك، عادت لتسجل 25 حالة جديدة في عام 2024. وهو ما يعني أن أفغانستان وحدها كانت مسؤولة عن ربع الإصابات العالمية في ذلك العام.
هذه الأرقام، رغم تناقصها النسبي مقارنة بعقود سابقة تظلّ صادمة في ظل وجود لقاح فعّال ومجاني، وتكشف عن فجوة عميقة بين المعرفة الطبية والواقع الاجتماعي والسياسي في هذين البلدين.
لكن لماذا ينتشر المرض بهذه الاعداد فى تلك الدولتين بالتحديد؟ تعود أسباب انشار المرض هناك لعدة أسباب. منها:
حظر طالبان للتطعيم
ففي سبتمبر 2024، أوقفت سلطات طالبان حملات التطعيم المنزلي مطالبة بتوجيه العائلات لمراكز أو مساجد تحت سيطرتها. هذا التغيير في النهج قلّص نطاق الوصول إلى الأطفال وهدّد تحقيق الهدف المرجو بتغطية 95% من الفئة المستهدفة
استبعاد النساء من فرق التطعيم
وهو عامل مؤثر جدا. حيث يمنع أنضمام النساء إلى فرق التطعيم وفى الوقت نفسه يحظر على الرجال من هذه الفرق رؤية النساء أو التحدث معهن ودخول المنازل. ولهذا لا تتلقى الأمهات أي قدر من التوعية بضرورة هذه التطعيمات أو توعية بصحة أطفالهن.
استهداف العاملين الصحيين
تعاني جهود التطعيم في أفغانستان من تحديات أمنية خطيرة. إذ أدت الهجمات المتكررة على فرق التطعيم إلى عرقلة الحملات الميدانية وتراجع معدلات التلقيح. وقد تفاقم الوضع منذ عام 2011، حين كُشف أن وكالة المخابرات الأميركية استخدمت حملة تطعيم وهمية لأخذ عينات وراثية ضمن عملية استهدفت تحديد مكان أسامة بن لادن. هذا الحادث ترك أثرًا بالغًا في وعي السكان. إذ عزز الشكوك القديمة تجاه برامج التطعيمات وأدى إلى تصاعد الاتهامات للعاملين الصحيين بالتجسس، مما جعل كثيرًا من المناطق ترفض استقبال فرق التطعيم خوفًا من أن يكونوا واجهة لأغراض مخابراتية أو أمنية غربية.
انعدام استقرار الوصول وإغلاق العيادات
إن الاضطرابات السياسية والقيود المفروضة بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، أدى إلى إغلاق مئات المنشآت الصحية منذ أوائل 2025 مما حرَم مئات الآلاف من الأطفال من خدمات التطعيم الروتيني.
رفض التطعيم بسبب الجهل والخرافات
للأسف يرفض حوالي 21% من الآباء تطعيم أبنائهم بسبب الخوف من مكوّنات اللقاح أو اعتقادهم أنها ملوثة أو أنها تسبب العقم فى مؤامرة من الغرب على المسلمين لإنقاص عددهم . وهذا يعتبر من أكثر الأسباب التى تقلل الثقة فى فرق التطعيمات والتطعيمات نفسها حتى أصيبت كل تلك الأعداد بالشلل فى هذه المناطق.
كذلك يعتبر ضعف البُنى التحتية الصحية واللوجستية ونقص الموظفين وضعف تبادل المعلومات، وعدم القدرة على الحفاظ على درجة حرارة اللقاح في المناطق النائية، كلها عوامل أدت إلى فقدان فعالية بعض اللقاحات عند الاستخدام . وهناك عامل آخر لا يقل أهمية وهو أنتشار الفيروس في المياه. ففي عام 2013 مثلا أكتشف الفيروس فى مياه الصرف الصحي.
أسد الله، شلل بسبب غياب بضع قطرات
لكن بعيدا عن الأرقام والإحصائيات فلنسرد قصة”أسد الله الأفغاني” شاب من هلمند وأحد ضحايا الخرافات وكل الاسباب مجتمعة والتى حولته إلى شخص مصاب بشلل الأطفال. والذى يحكي بانه عندما كان في الثالثة من عمره شعر بألم حاد في ساقه. وخلال أيام فقد القدرة على المشي. وحين نقلته والدته إلى المستشفى بعد رحلة شاقة كان التشخيص صادمًا: شلل الأطفال.
لم يتلقَّ أسدالله اللقاح أبدًا عن إهمال، بل لأن اللقاح لم يصل إليه أصلا. فقد حال القتال العنيف فى منطقته دون وصول فرق التطعيم إلى القرية. فغابت الحملة الصحية وغاب معها الأمل في الوقاية. بضع قطرات فقط كانت كفيلة بإنقاذه لكنها لم تعبر الحواجز ولا الخوف.
يقول اليوم وهو في مطلع العشرينات:”لا أذكر الكثير من طفولتي لكنني أذكر جيدًا كم كان مؤلمًا أن أرى الأطفال يركضون بينما أُحمل أنا على الأكتاف. كنت بحاجة إلى بضع قطرات فقط لكنها لم تصلني.”
أسدالله لم يستسلم لإعاقته. صار ناشطًا في حملات التوعية ويخاطب العائلات ويُصرّ على أن الجهل والخرافات يجب ألا يحكموا على أجيال كاملة بالإعاقة.
قصته أصبحت رسالة حيّة تقول إن الشلل ليس قدرًا. بل نتيجة غياب اللقاح في الوقت الخطأ.