قبل أسابيع قليلة، وقع نظري على خبر يقول: توأم سوري ملتصق منذ الولادة، يفصل بنجاح في مستشفى سعودي، سيلين وإيلين عبدالمنعم الشبلي، طفلتان من حلب، ولدتا ملتصمتين في الصدر والبطن، في ظروف حرب لم تكن تسمح لهما بأمل في الحياة، لكن القدر نقلهما إلى مستشفى الملك عبدالله التخصصي للأطفال بالرياض، وهناك.. في إحدى غرف الصرح الطبي الكبير جرت عملية جراحية معقدة، فاق نجاحها كل التوقعات، ومنحت الطفلتين استقلالية جسدية لم تحلما بها.
لكن الخبر لم يكن مجرد عملية ناجحة، فقد سبق ذلك عمليات أخرى عديدة مشابهة.. لقد أثار في أسئلة ملحة:
لماذا السعودية تحديدا؟
كيف تحولت إلى قبلة عالمية لفصل التوائم الملتصقة؟
وما السر الذي جعل فريقا طبيا سعوديا ينجح حيث عجز آخرون؟
على مدار أكثر من ثلاثة عقود، استطاعت السعودية أن تحجز لنفسها موقعا متقدما بين دول العالم في واحد من أدق وأصعب التخصصات الطبية، وهو جراحة فصل التوائم الملتصقة، هذه الحالات النادرة، التي لا تزيد نسبتها على حالة واحدة بين كل مئتي ألف ولادة، تمثل تحديا طبيا شديد التعقيد نظرا لتشارك التوائم في أعضاء حيوية أو أجهزة داخلية تجعل فصلهم مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومع ذلك، نجحت المملكة عبر برنامجها الوطني في تحويل المستحيل إلى ممكن، حتى غدت الرياض عنوانا عالميا للأمل، ووجهة لكل أسرة وجدت نفسها في مواجهة هذا القدر الصعب.

البداية تعود إلى عام 1990م، عندما أجريت أول عملية فصل لتوأم سيامي سعودي، لتفتح الباب أمام مسار طويل من النجاحات، بعد ذلك بعامين فقط، جاء النجاح الكبير في فصل التوأم السوداني «سماح وهبة»، وهو حدث لم يكن طبيا فحسب، بل إنسانيا وتاريخيا بامتياز.
فقد استغرقت العملية ثماني عشرة ساعة، بمشاركة فريق سعودي متكامل، لتنقذ الطفلتين من مصير كان محتوما، ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الأمر مجرد تجربة جراحية، بل تحول إلى برنامج رسمي يحظى بدعم القيادة السعودية، وبتخصيص الموارد اللازمة لاستمراريته وتطوره.
سر هذا التميز السعودي لا يمكن اختزاله في عامل واحد، بل هو نتاج منظومة متكاملة تبدأ بالدعم المؤسسي السخي، فالمملكة لم تكتف بتوفير الإمكانيات داخل المستشفيات، بل تكفلت بجميع نفقات العمليات، بما في ذلك سفر العائلات من الخارج، وإقامتهم، ومتابعتهم بعد الجراحة، في مبادرة إنسانية ترفع عن كاهل الأسر عبئا ماليا قد يصل في بعض الحالات إلى مليون ونصف المليون ريال، هذه السياسة جعلت من البرنامج ملاذا مجانيا وآمنا لعائلات لا تملك سوى الدعاء، وأحالت المستحيل إلى فرصة للحياة.

وفي قلب هذه المسيرة يقف الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز الربيعة، الذي يعد رمزا لهذا الإنجاز الإنساني والطبي. قصة الربيعة الشخصية، حين خضع وهو طفل لعملية جراحية في الرأس دون تخدير كامل، زرعت داخله فلسفة تقوم على التخفيف من معاناة الآخرين ومنحهم الأمل. ومنذ العملية الأولى عام 1990، قاد بنفسه عشرات العمليات، محافظا على حضوره الدائم في غرفة العمليات رغم تقلده مناصب رفيعة كوزير للصحة ورئيس لمركز الملك سلمان للإغاثة. بالنسبة له، ليست العمليات مجرد إجراء طبي، بل رسالة إنسانية عميقة، يؤمن بأن دماء الأطفال في غرفة العمليات تترجم إلى حياة جديدة وفرح غامر لعائلاتهم.
أما الفريق الطبي، فقد شكل بدوره ركيزة أساسية لهذا النجاح. عمليات فصل التوائم ليست جراحة فردية يقوم بها بطل واحد، بل أوركسترا دقيقة تحتاج إلى عشرات التخصصات تعمل بتناغم مذهل. ففي بعض العمليات، مثل فصل التوأم السعودي «يارا ولارا»، شارك أكثر من ثمانية وثلاثين متخصصا، فيما تطلب فصل التوأم الإريتري «أسماء وسمية» عام 2025 جهد ستة وثلاثين خبيرا من مختلف المجالات: جراحة الأعصاب، الأطفال، التجميل، العظام، والتخدير. هذا الاستقرار في الفريق الطبي عبر العقود أتاح تراكم الخبرات وصقل المهارات، حتى بات البرنامج السعودي من أكثر البرامج خبرة على مستوى العالم.
استقبل البرنامج أكثر من مئة وأربع وعشرين حالة من ثلاث وعشرين دولة، بينها بلدان بعيدة مثل بولندا والفلبين وماليزيا، ودول تعاني ويلات الحرب كالعراق وسوريا واليمن. كانت الفلسفة واضحة: كل طفل له الحق في الحياة، وكل أسرة تستحق أن تمنح فرصة الأمل.
القصص الإنسانية التي خرجت من الرياض خير شاهد على ذلك، فالتوأم السوداني «سماح وهبة» أصبحت قصتهما جزءا من التاريخ، وتصف سماح اليوم نفسها بأنها «بنت سدير» اعترافا بفضل المملكة عليها، أما التوأم العراقي «عمر وعلي»، فقد جاءا إلى الرياض عام 2023 بعدما يئس والدهما من المستشفيات.

كان الأمل الأخير فيديو شاهده على «يوتيوب» يوثق نجاحات الدكتور الربيعة، وبعد إحدى عشرة ساعة من الجراحة بمشاركة سبعة وعشرين متخصصا، خرج عمر وعلي إلى الحياة كل في جسده المستقل، وعادا إلى بغداد بعد عام من المتابعة، ليصبحا رمزا للوحدة العربية كما قال والدهما الذي اختار لهما اسمين يعكسان معا معاني الأخوة والعيش المشترك.
ومن سوريا جاءت قصة لا تقل تأثيرا، حيث ولدت التوأمتان «سيلين وإيلين» لعائلة لاجئة في لبنان. الظروف القاسية لم تمنع المملكة من احتضانهما، وأجريت لهما العملية رقم ستة وستين في تاريخ البرنامج عام 2025. استغرقت العملية تسع ساعات كاملة بمشاركة أربعة وعشرين طبيبا، وانتهت بفصل ناجح أعاد الأمل إلى الأسرة المنهكة من قسوة الحرب واللجوء.

ولا تتوقف القصص عند العالم العربي، بل تمتد إلى أوروبا، ففي عام 2005 نجح الأطباء السعوديون في فصل التوأم البولندي «أولغا وداريا»، وهي عملية كان لها صدى عالمي واسع. ولم يقتصر الأمر على نجاح طبي، بل تحول إلى تكريم رمزي حين منحت الطفلتان الملك عبدالله بن عبدالعزيز «وسام الابتسامة»، وهو وسام دولي يمنحه الأطفال للقادة الذين يدخلون السعادة إلى قلوبهم.
هذه القصص، بما تحمله من أبعاد إنسانية وطبية، تعكس سر التميز السعودي في هذا الصدد، فهنا نجد الدعم المؤسسي السخي، وهناك القيادة الطبية الملهمة ممثلة في الدكتور الربيعة وفريقه، وهناك أيضا الفلسفة الإنسانية العميقة التي جعلت المملكة قبلة للأمل بلا تمييز أو شروط.