ولدت في عالمٍ بلا صوت، لكنها كانت تنصت لنفسها جيدا، فاختارت أن تكتب قصتها بلغة بألوان لوحاتها الناطقة بما عجز عنه اللسان فضحته الموهبة، صنعت حكايتها الخاصة، لتثبت أن الاختلاف ليس عجزًا، بل طاقة حياة قادرة أن تفتح الأبواب المغلقة
نادية الباروت موظفة بشرطة كلباء بالشارقة تحكي رحلتها لـ “جسور” تقول: ولدت في إمارة الشارقة وعشت طفولتي كباقي الأطفال، ألعب وأضحك دون أن أشعر بالاختلاف. لم أكن أدرك أنني لا أسمع، ولم يخطر ببالي أنني أنقص شيئا ، وذلك لفرط إحتواء أسرتي وعنايتهم بي، لكن بدأت المعاناة حين دخلت المدرسة، كانت تلك اللحظة الفاصلة التي جعلتني أعي أنني لست مثل الآخرين. ولم يكن الصمت هو السبب في كشف ذلك، بل تعامل زملائي ونظراتهم التي جعلتني أدرك اختلافًا لم أعرفه من قبل.
وتكمل نادية حديثها :” واجهت في سنوات الدراسة الكثير من التساؤلات، بعضها كان يجرحني، لكنني اخترت أن أحوّل فضول الآخرين إلى جسر للتواصل، وأيقنت أن الفضول البشري يمكن أن يقرب المسافات ويخلق علاقات حقيقية، وأن الاختلاف ليس حاجزًا، بل وسيلة لفهم العالم بعيون أخرى.

حين أنهيت المرحلة الثانوية، كنت أحمل حلمًا كبيرًا بأن أكمل دراستي الجامعية داخل الإمارات، لكنني اصطدمت بواقع صعب، و لم تُتح لي الفرصة بسبب غياب مترجمي لغة الإشارة في الجامعات. كانت صدمة مؤلمة، بكيت كثيرًا، لكنني لم أسمح لليأس أن يتسلل إلى قلبي. قلت لنفسي: “إذا أُغلقت الأبواب هنا، فستُفتح في مكان آخر، ومن هنا وُلد حلما أكبر بأن أسافر إلى الولايات المتحدة لأتابع دراستي الجامعية بلغة الإشارة، ثم أعود إلى وطني محمّلة بالعلم والخبرة وأساهم في بنائه وتنميته.
وبين كل هذه المحطات، وجدت نفسي في عالم الرسم و صارت الألوان صوتي، واللوحات تحولت إلى مساحة أفرغ فيها مشاعري ، ومع كل لوحة أنهيتها جعلتني أشعر أنني أستعيد جزءًا من صوتي المفقود، كان الرسم بالنسبة لي ليس مجرد هواية، بل حياة حقيقية أعيشها وطريقة حية لاكتشاف ذاتي، ووسيلة ملموسة لملء فراغات الصمت بكل حب ورضا.
واستطردت نادية الباروت :” اليوم أعمل موظفة في شرطة كلباء بالشارقة، منحني عملي قربًا أكثر من الناس ومن قصصهم، وفي كل موقف أعيشه يوميا، أرى في كل إنسان نقطة ضعف، وأدرك اكثر أن قوتنا الحقيقية تكمن في مواجهة هذه النقاط وتحويلها إلى دافع للحياة.

ومع تقدمي في مسيرتي، لم أكتفِ بتحقيق ذاتي، بل سعيت لأن أمد يد العون لغيري من الصم، فأسست مبادرات ومشاريع لدعمهم، كان أبرزها مشروع الأعمال اليدوية الذي فتح الأبواب أمام الكثير منهم لاكتشاف مهاراتهم وتحويلها إلى مصدر رزق واستقلالية، كنت أؤمن دائمًا أن تمكين هذه الفئة لا يحقق فقط العدالة، بل يعزز قوة المجتمع كله.
مكملة حديثها :” لم أحب أن تكون أعمالي مجرد مبادرات مكتوبة على ورق، بل أردت أطلق رسائل حيّة أقول فيها للعالم:” نحن لسنا على هامش الحياة، نحن قادرون على العطاء والإنجاز” وفي كل خطوة خطوتها، كنت أحمل معي وجع التجربة، وإصرارًا مضاعفًا على أن أكون مصدر إلهام لكل امرأة صماء تبحث عن فرصة لتُثبت وجودها.
وأعلنت حكايتي باختصار :”أنني لم أكتفِ بأن أتغلب على صعوباتي الشخصية، بل اخترت أن أكون جسرًا يعبر من خلاله الآخرون إلى حياة أفضل. وأؤمن أن الصمت ليس عائقًا، بل قد يكون بداية لصوت أعلى من كل الضجيج الذي يعيشه السامعين .