نشرت مواقع مصرية خبرا عن حادثة هزت الرأي العام، حيث استُدرجت طفلة من ذوي الإعاقة بمحافظة الدقهلية، بقطعة كيك وكوب عصير، قبل أن تجد نفسها في مواجهة استغلال آثم، في مشهد يكشف عن واحدة من أعقد ثغرات النفس البشرية، وهي استغلال الضعف الإنساني.
في أحد مقاطع الفيديوهات المنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تصرخ أم الطفلة الضحية، قائلة: «بنتنا مش بتنام من الخوف»، حيث لم تكن مجرد جملة عابرة، بل انعكاس لصراع داخلي عنيف تعيشه الطفلة وأسرتها.
وحسب ما قالته الأم في مقطع فيديو انتشر على صفحات عدة، بمواقع التواصل الاجتماعي، قالت إن ابنتها «خلود» ولدت بمرض وراثي، وأصيبت بمتلازمة برادر-فيلي (PRAH-dur VIL-e)، حالة وراثية نادرة تؤدي إلى مشكلات جسدية وعقلية وسلوكية.
السمة الرئيسية لهذه المتلازمة الشعور الدائم بالجوع، موضحة «البنت دايما جعانة وبتاكل أي حاجة، علشان كده ممكن حد يستغلها ويخدعها بسندوتش، لأنها مش مستوعبة ولا فاهمة».
من هنا يتحول الحدث الفردي إلى نافذة تحليلية أكبر، تضعنا أمام أسئلة أعمق مثل كيف يستغل«الجوع» كمدخل للسيطرة؟ كيف تتحول لحظة ضعف إلى صدمة طويلة الأمد؟ وما الذي يقوله لنا القانون والمجتمع في مواجهة مثل هذه الجرائم؟
بين الألم العضوي والجوع النفسي
الطب يفرق بوضوح بين ألم الجوع الناتج عن المعدة الفارغة، و«متلازمة الجوع» التي تدفع بعض الأشخاص إلى الأكل طوال الوقت بسبب اضطراب هرموني أو نفسي، فالجوع النفسي هو حالة يلجأ فيها الفرد إلى الطعام كوسيلة للهروب من الملل والقلق أو الوحدة وهو سريع ومفاجئ.
في هذه الحالة غالبا ما يتجه الشخص لتناول الحلويات والمأكولات التي تمنح الدماغ دفعة من «الدوبامين»، الأطفال، خصوصا من ذوي الإعاقات، أكثر عرضة لهذه الحالة، لأنهم قد يفتقرون إلى بدائل أخرى للشعور بالراحة أو التقدير.
من منظور علم السلوك التطبيقي، ما حدث في الدقهلية كان عملية إغراء باستخدام «معزز ملموس»، فالجاني استغل نقطة ضعف طفلة، متمثلا في حاجة نفسية غير مشبعة، لتتحول الكيكة والعصير إلى طعم، وهذه ليست جريمة عشوائية، بل نموذج واضح لاستغلال مكافأة لدفع الطفل لاتخاذ سلوك معين.
شهادة الأم أن طفلتها لم تعد تنام، تقابلها في علم النفس قائمة طويلة من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة ، PTSD كوابيس وقلق دائم وفقدان ثقة، وآلام جسدية بلا سبب عضوي، الطفل لا يستعيد لحظة الجريمة، فقط بل يعيشها مرارا في ذاكرته.
الأطفال من ذوي الإعاقات الذهنية يواجهون صعوبة مضاعفة، حيث لا يملكون القدرة الكاملة للتعبير عما حدث، كما أنهم أكثر عرضة لتكرار الاعتداء، بينما الصدمة قد تعيدهم خطوات إلى الوراء في مهارات اكتسبوها بشق الأنفس، إذا الواقعة ليست مجرد استغلال لطفلة، بل استغلال لفئة بأكملها، يكشف هشاشة مضاعفة تحتاج إلى حماية خاصة.
حماية على الورق أم على الأرض؟
في مصر يوفر القانون رقم 10 لسنة 2018حماية واضحة لذوي الإعاقة، ويجرم قانون الطفل والمواد العقابية أي اعتداء عليهم بعقوبات تصل للحبس سنوات طويلة، لكن استمرار الحوادث المتكررة في محافظات أخرى، يضعنا أمام سؤال مجتمعي صعب الحصول على إجابته.
المجلس القومي للطفولة والأمومة يدير خط نجدة الطفل (16000) ويستقبل آلاف البلاغات، لكن ماذا بعد البلاغ؟ هل يحصل الطفل فعلا على رعاية نفسية عاجلة؟ هل يعاقب مرتكب الجريمة بالسرعة المطلوبة؟ أم تظل القضايا معلقة بين المحاكم؟
معوق آخر تفرضه عادلت وتقاليد المجتمع الذي يختبئ وراء ثقافة الخوف من الفضيحة والعيب، ما يدفع الكثير من الأسر على الاحجام عن تقديم بلاغات للجهات المختص، الأسوأ أن بعض الأصوات تلقي اللوم على الضحية، بدلا من الجاني، ما يضاعف الألم ويزيد الصدمة.
حادثة الدقهلية لم تكن مجرد استدراج طفلة بقطعة حلوى، بل كانت جرس إنذار بأننا أمام ظاهرة – قديمة حديثة – أعمق من فعل فردي باستغلال «الجوع النفسي» والضعف الإنساني كأداة للسيطرة، وما ينتج عنه من صدمات قد تلازم الضحايا مدى الحياة.
بين نصوص قانونية قوية على الورق، وواقع لا يمل من تكرار الجرائم، تظل الفجوة قائمة، والواجب الآن أن نتعامل مع هذه الجرائم لا باعتبارها قضايا جنائية فقط، بل باعتبارها قضايا مجتمع وهوية وإنسانية، والمطلوب ليس فقط معاقبة الجناة، بل علاج الضحايا وتحصين الأسر، وبناء حصانة مجتمعية تردع أي محاولة لاستغلال الضعف البشري، سواء كان جوعا أو خوفا أو وحدة.