الولايات المتحدة – جسور- فاطمة الزهراء بدوي
أثار مقطع فيديو متداول عبر منصات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، جدلًا واسعًا، تظهر فيه ممثلة مصابة بمتلازمة داون، تؤدي مشهدًا يوصف بأنه مثير، وسط تحذيرات من جهات دينية ومجتمعية بشأن آثار هذا النوع من المحتوى، على الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية، لا سيما ذوي متلازمة داون، المعروفين بحساسيتهم الشديدة، وتأثرهم بسلوك من حولهم.
القلق لم يأتِ من فراغ. بحسب منظمة “ذا آرك” الأميركية، فإن الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية والنمائية يتعرضون للاعتداء الجنسي بمعدل يزيد سبع مرات عن أقرانهم، من غير ذوي الإعاقة. ويعاني الكثيرون من شعور دائم بالوحدة والتهميش، ما يجعلهم أكثر عرضة للتأثر بوعود الحب أو الزواج من قبل أشخاص يتعمدون استغلالهم جنسيًا.
بعض أولياء الأمور يواجهون صراعات نفسية واجتماعية في إيجاد توازن صعب بين حماية أبنائهم من الأذى وتمكينهم من ممارسة قدر من الاستقلالية. لكن الخط الفاصل يختلف من حالة لأخرى، ويرتبط بمدى قدرة كل فرد على فهم الخطر ومعالجته. المشكلة تصبح أكثر تعقيدًا حين يُنظر إلى التصرفات المثيرة للجدل باعتبارها رمزية على “التحرر”، بينما يتغافل البعض عن حجم الخطر الأخلاقي والجسدي الكامن وراء هذه السلوكيات.
المنشور الذي سلط الضوء على هذه القضية لم يقتصر على التحليل الأخلاقي، حيث ربط بين ظاهرة استغلال ذوي الإعاقة وتزايد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في صناعة محتوى قد يُستخدم لترويج صور أو فيديوهات مزيفة لفتيات مصابات بمتلازمة داون. هذا التلاعب لا يؤذيهن فقط، ولكن يوجه رسائل خفية للمتحرشين بأن هؤلاء الفتيات “متاحات” أو “راغبات”، وهو ما يعتبره البعض نوعًا من التحريض الضمني.
عدد من الأسر الأميركية عبرت عن مخاوفها من تنامي هذه الظاهرة، خصوصًا في ظل عدم وضوح المعايير التي تحدد ما إذا كان الشخص ذو الإعاقة قادرًا فعلًا على إعطاء الموافقة الجنسية أو اتخاذ قرارات ناضجة. وفي حال وقوع اعتداء، تظهر صعوبة بالغة في إثبات توفر “النية” أو الوعي الكافي عند الضحية، ما يعقد الإجراءات القانونية داخل المحاكم.
في هذا السياق، أصدر مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة تحديثًا لوثيقته الصادرة عام 2015 بشأن مخاطر المواد الإباحية، بعنوان “اخلق فيّ قلبًا نقيًا”، محذرًا من الأثر المدمر لمثل هذه المواد على الأفراد والمجتمعات. ومن المتوقع أن يصدر قريبًا بيان رعوي جديد يتعلق بالإعاقة، وهو ما قد يشكل أرضية فكرية وأخلاقية لمواجهة هذا التحدي الآخذ في الاتساع. التحذير الأبرز جاء عبر استدعاء إحدى الآيات الإنجيلية الصارمة، في إشارة مباشرة إلى مسؤولية كل فرد ومؤسسة عن حماية الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
الحل لا يكمن في عزل أصحاب متلازمة داون أو كبت رغبتهم في التعبير عن الذات، ولكن في خلق بيئة آمنة وموجهة تدرك طبيعة احتياجاتهم العاطفية والمعرفية، دون تسليع أجسادهم أو تبرير ما يفتح أبوابًا للانتهاك.
الحذر، التوجيه، والتعاون بين الأسر والمؤسسات الدينية والمجتمعية هي مفاتيح الحماية الحقيقية.. فالفرد لا يُحمى بالصمت، ولا تُصان كرامته بتجاهل الحقيقة، بل بالمواجهة الصادقة مع الواقع، والإصرار على الدفاع عن حقوق من لا يملكون الصوت الكافي للدفاع عن أنفسهم.