تحقيق في قصص استثنائية لحائزين على جائزة نوبل من ذوي الإعاقة، وكيف حولوا التحديات الجسدية والنفسية إلى محفزات للابتكار والابداع.. تعرف إليهم.
بين طيات تاريخ جائزة نوبل، لا تلمع أسماء العباقرة فحسب، بل تتوهج أيضاً قصص بشر هزموا أجسادهم ليثبتوا أن العجز الحقيقي ليس في الجسد، بل في الاستسلام. من مختبرات يملؤها ألم المفاصل، إلى عقول تحارب الهلاوس، وصولًا إلى أدباء استلهموا من الإعاقة معنى الحياة. هنا سردية العبقرية التي تتحدى القيد.
ونستعرض في هذا التقرير قصص استثنائية لحائزين على جائزة نوبل من ذوي الإعاقة، وكيف حولوا التحديات الجسدية والنفسية إلى محفزات للابتكار والابداع.. تعرف إليهم.
لطالما كانت جائزة نوبل ذروة التقدير الإنساني في ميادين العلم والأدب والسلام. لكن خلف بعض هذه الميداليات الذهبية تختبئ قصص استثنائية لأفراد خاضوا معركتين في آن واحد: معركة الابداع ومعركة الجسد أو النفس.
يُظهر تتبع سيَر عدد من الحائزين على نوبل أن الإعاقة لم تكن عائقاً، بل كانت في بعض الأحيان وقوداً فكرياً أو دافعاً فلسفياً نحو التميز.
علماء قاوموا الجسد
هناك علماء فرضت عليهم قيودهم الجسدية ابتكار حلول ومنهجيات جديدة لمواصلة عملهم، وتعد دوروثي هودجكن، الحائزة على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1964، مثالًا أيقونياً على الكيفية التي يمكن بها للعزيمة أن تتغلب على التدهور الجسدي المطرد، إذ نالت هودجكن الجائزة لاكتشاف البنية الذرية للبنسلين والإنسولين.
لكن خلف هذا المجد العلمي كانت تعيش معركة يومية ضد التهاب المفاصل الروماتويدي الذي شوّه يديها وأفقدها القدرة على الحركة الدقيقة، لكن بدلًا من التراجع طورت هودجكن أدواتها بنفسها، فقد طلبت من الفنيين صناعة «ذراع رافعة أطول» لتتمكن من تشغيل أجهزة الأشعة السينية دون ألم.
طالع: ندى ثابت: إعاقة ابنى سبب تأسيس”قرية الأمل” وترشيحي لـ”نوبل” شرف
ذلك التعديل البسيط أنقذ أبحاثها، وأثبت أن الابتكار قد يولد من رحم الإعاقة نفسها. ومع تدهور حالتها، استمرت في حضور المؤتمرات على كرسي متحرك، لتصبح رمزاً مزدوجاً للتحدي: تحدي الجسد وتحدي التمييز بين الجنسين في العلم.
في عالم الطب برز عالمان تغلبا على الصمم وضعف السمع وهما هانز كريبس (نوبل الطب 1953)، مكتشف دورة حمض الستريك الشهيرة، عانى من ضعف في السمع لدرجة أنه لم يسمع رنين الهاتف الذي بلغه بفوزه بالجائزة، أما تشارلز نيكول (نوبل الطب 1928)، فقد كان أول فائز معروف بالصمم في تاريخ الجائزة، كلاهما برهن أن الصوت الحقيقي للعبقرية لا يسمع بالأذن، بل يدرك بالعقل.

جون ناش وتوازن العقل
في عام 1994 أعادت الأكاديمية السويدية تعريف معنى «العبقرية» عندما منحت جائزة نوبل في الاقتصاد لعالم الرياضيات الأمريكي جون ناش، رغم معاناته من الفصام الارتيابي لعقود طويلة. كان ناش يرى أوهامًا ويؤمن أنه رسول سري أو شخصية أسطورية، مما أدى إلى انهيار مسيرته الأكاديمية.
لكن بعد سنوات من العلاج، استعاد توازنه العقلي وعاد إلى البحث العلمي، ليُكرم عن نظريته الشهيرة «توازن ناش» في نظرية الألعاب.
قصة ناش لم تكن فقط عن فوز أكاديمي، بل عن انتصار العقل على ذاته. لقد أثبت أن المرض النفسي لا يلغي القيمة الفكرية، وأن نوبل يمكن أن تكون أيضاً شهادة تقدير للإنسانية في مواجهة العقل المضطرب.

كنزابورو أوي وابنه هيكاري
في اليابان عام 1963 وُلد للكاتب الشاب كنزابورو أوي طفل مصاب بتلف دماغي، تحولت هذه التجربة الصادمة إلى محور دائم في أدب أوي، فكتب روايته الشهيرة «أمر شخصي» التي تحكي صراعه النفسي لقبول ابنه المختلف، ولاحقًا، صار الابن «هيكاري» مصدر إلهام لسلسلة أعمال جعلت أوي يفوز بنوبل الأدب عام 1994
حوّل الكاتب المأساة العائلية إلى رسالة كونية عن الكرامة والضعف الإنساني، مؤكداً أن الإبداع يمكن أن يولد من الألم، وأن الأبوة قد تكون أعمق من أي فلسفة.
رموز لم تنل نوبل ولكنها غيرت العالم
رغم أنه لم يفز بالجائزة يبقى ستيفن هوكينج الوجه الأكثر شهرة لتحدي الجسد، حيث أصيب بمرض التصلب الجانبي الضموري وهو في الحادية والعشرين، وأصبح عاجزًا عن الحركة تماماً.
ومع ذلك واصل أبحاثه حول الثقوب السوداء وأشعة هوكينج، لكنه لم يحصل على نوبل لأن الجائزة في الفيزياء لا تُمنح إلا للاكتشافات المثبتة تجريبياً، رغم ذلك فاز في الوعي الإنساني بلقب أرفع.. رمز لانتصار العقل على الجسد.
الصماء العمياء هيلين كيلر لم تفز بنوبل، لكنها رُشحت لجائزة السلام عام 1954 عن نشاطها الإنساني في دعم حقوق ذوي الإعاقة
الصماء العمياء هيلين كيلر لم تفز بنوبل، لكنها رُشحت لجائزة السلام عام 1954 عن نشاطها الإنساني في دعم حقوق ذوي الإعاقة، كان ترشيحها اعترافاً عالمياً بأن العمل الإنساني الصادق هو شكل من أشكال العبقرية أيضاً.
من مختبرات كامبريدج إلى قاعات نوبل في ستوكهولم، تبرهن هذه القصص أن العبقرية لا تحتاج إلى جسد كامل، بل إلى روح لا تعرف الانكسار، حيث أثبتت دوروثي هودجكن أن الفيزياء لا تعترف بالألم، وأكد جون ناش أن النظام يمكن أن يولد من الفوضى، وجعل كنزابورو أوي من الإعاقة نشيداً أدبياً عن الإنسانية. إنها ليست قصصاً عن «نقص» في الجسد، بل عن اكتمال في الإرادة.
وهكذا تظل جائزة نوبل في جوهرها احتفالاً بالعقل البشري حين يتجاوز حدوده، ويصنع من الألم مجداً.