طالع هذه الملحمة الملهمة لهيلين كيلر ومعلمتها آن سوليفان، من عزلة الطفولة الى أول شخص أصم وكفيف يتخرج من الجامعة وناشطة اشتراكية غيرت نظرة العالم للإعاقة.. تعرف إلى قصتها.
ولدت هيلين آدامز كيلر في 27 يونيو 1880، طفلة سليمة وذكية بدأت بنطق الكلمات في أشهرها الأولى، لكن القدر خبأ لها منعطفاً حاداً ومفاجئاً ففي عمر 19 شهراً فقط، أصيبت بمرض غامض يُرجح أنه التهاب السحايا الجرثومي، نجت منه بأعجوبة لكنها خرجت وقد سُلبت منها أثمن حواسها حيث فقدت بصرها وسمعها تماماً.
أُلقي بهيلين في عالم وصفته لاحقاً بأنه «بحر في ضباب كثيف» إذ انقطع اتصالها بالعالم الخارجي، وأصبحت حبيسة صمت وظلام أبديين، هذا الانعزال الحسي حال دون تطور قدرتها على الكلام، مما ولد لديها إحباطا هائلا وغضبا عارما، تحولت معه الطفلة الذكية إلى طفلة «جامحة» و«صعبة المراس»، وكانت عائلتها على وشك الاستسلام للمصير الشائع آنذاك وإيداعها في إحدى المؤسسات لكن كان هناك عقل متقد، يكافح للخروج من سجنه الصامت.
آن سوليفان صانعة المعجزات
في مواجهة اليأس قادت رحلة البحث العائلة إلى المخترع ألكسندر غراهام بيل، الذي وجههم بدوره إلى معهد بيركنز للمكفوفين وهناك رُشحت لهم معلمة شابة عمرها 20 عاماً وهي آن مانسفيلد سوليفان والتي لم تكن آن مجرد معلمة كانت يتيمة عانت هي نفسها من ضعف شديد في البصر، مما منحها إرادة حديدية لإنقاذ الطفلة من المصير الذي كادت أن تواجهه.

في 3 مارس 1887 وصلت آن سوليفان ولم تكن البداية سهلة فقد واجهت آن طفلة متمردة، حتى أنها كسرت إحدى أسنانها في نوبة غضب، وبحكمة فطرية أدركت آن أن التعليم لن يبدأ قبل فرض الانضباط وبناء الثقة فطلبت من العائلة عزلها مع هيلين في كوخ صغير لمدة شهر لكسر دائرة السلوكيات القديمة.
وجاءت اللحظة الفارقة في 5 ابريل 1887 في مشهد أصبح من أشهر اللحظات في تاريخ التعليم، أخذت آن هيلين إلى مضخة المياه القديمة في حديقة المنزل وضعت إحدى يدي هيلين تحت الماء البارد المتدفق، وفي راحة يدها الأخرى بدأت آن بتهجئة كلمة «م-ا-ء»، في تلك اللحظة حدث ما يشبه الانفجار الكوني في عقل هيلين حيث ارتبط الإحساس المادي بالماء البارد بالرموز اللمسية المكتوبة.
طالع: اليوم الدولي للإعاقة السمعية البصرية.. هيلين كيلر امرأة قهرت المستحيل
وصفت هيلين هذه اللحظة قائلة: «فجأة شعرت بوعي ضبابي كشيء منسي ورعشة فكر عائد وبطريقة ما كُشف لي سر اللغة»، كانت هذه هي «الصحوة المفاجئة لروحها» وفي غضون ستة أشهر فقط توسعت مفرداتها لتشمل 625 كلمة.
طوال هذه الرحلة كانت آن سوليفان ظلها الذي لا يفارقها تهجئ الكلمات والجمل في يدها بدقة وسرعة مذهلتين
الطريق إلى هارفارد
بمجرد ان تم فتح أبواب اللغة انطلقت هيلين كيلر في رحلة تعليمية لا مثيل لها، مدفوعة بذكاء حاد وشغف لا ينضب، حيث أتقنت هيلين طريقة برايل للقراءة والكتابة وتمكنت من قراءة أعمال بالإنجليزية والألمانية واليونانية، كما تعلمت الكلام باستخدام طريقة «تادوما»، حيث كانت تضع أصابعها على شفاه وحنجرة المتحدث لتشعر بالاهتزازات.
وفي عام 1900 حققت حلم طفولتها بالالتحاق بكلية رادكليف (التابعة لجامعة هارفارد آنذاك)، بتمويل من متبرعين، وطوال هذه الرحلة كانت آن سوليفان ظلها الذي لا يفارقها تهجئ الكلمات والجمل في يدها بدقة وسرعة مذهلتين.
وفي يونيو 1904 تخرجت هيلين كيلر بمرتبة الشرف، لتصبح أول شخص أصم كفيف في التاريخ يحصل على درجة البكالوريوس في الآداب، وكان هذا إنجازاً حطم المفاهيم السائدة حول قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة.
هيلين كيلر ناشطة وكاتبة
لم تكتفِ هيلين كيلر بالانتصار الشخصي بل سخرت قلمها ومنصتها لخدمة الإنسانية، حيث نُشر كتابها الأول سيرتها الذاتية «قصة حياتي» عام 1903 بينما كانت لا تزال طالبة، حقق الكتاب نجاحا عالميا هائلا وترجم إلى 50 لغة، وما يميز الكتاب هو أسلوبه الذي يخلو تماماً من الشفقة على الذات، بل يحتفي بحبها العميق للغة، لقد ألفت 14 كتاباً وأكثر من 475 خطاباً ومقالاً على مدار حياتها.

بعيداً عن صورة الأيقونة الملهمة كانت هيلين ناشطة اشتراكية متقدمة وجذرية، حيث انضمت إلى الحزب الاشتراكي الأمريكي في عام 1909، ودافعت بشراسة عن حقوق العمال، وربطت الفقر بظروف العمل غير الآمنة والإصابة بالإعاقات، كما كانت من أشد المؤيدات لحق المرأة في التصويت، ومن أوائل المؤيدين للجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (NAACP).
وفي عام 1920 شاركت في تأسيس الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU)، مما جسد إيمانها بضرورة حماية الحريات الأساسية للجميع.
سفيرة عالمية للقضايا الإنسانية
بعد الحرب العالمية الثانية تحولت هيلين كيلر إلى سفيرة عالمية للقضايا الإنسانية، وبين عامي 1946 و 1957 قامت بسبع رحلات دولية ملحمية زارت خلالها 35 دولة، حاملةً رسالة الأمل والتشجيع، ومقنعةً الحكومات بإنشاء مدارس ومؤسسات لرعاية المكفوفين والصم.
وخلال حياتها التقت بكل رئيس أمريكي من غروفر كليفلاند إلى ليندون جونسون، وحصلت على تكريمات عالمية مثل وسام الحرية الرئاسي في عام 1964.
في 1 يونيو 1968 توفيت هيلين كيلر لكن إرثها بقي خالداً، إذ أثبتت أن حدود القدرات البشرية لا تحددها الظروف المادية بل الإرادة والبصيرة، كما كتبت هي نفسها فإن رسالتها النهائية للعالم تتجاوز حواسنا المحدودة: «إن أجمل الأشياء وأعظمها في الحياة لا يمكن رؤيتها أو لمسها، ولكننا نشعر بها في قلوبنا».