أن تقتل طائرا بريئا.. عندما تكون الإعاقة دليل البراءة الذي رفض العالم رؤيته

أن تقتل طائرا بريئا.. عندما تكون الإعاقة دليل البراءة الذي رفض العالم رؤيته

المحرر: محمود الغول - مصر
أن تقتل طائرا بريئا

يوافق اليوم، الخامس والعشرون من ديسمبر، ذكرى ميلاد تحفة سينمائية خالدة. في الواقع، استقبلت شاشات السينما عام 1962 العرض الأول لفيلم أن تقتل طائرا بريئا. ولم يكن هذا العمل مجرد دراما قانونية تقليدية مقتبسة عن رواية ناجحة. بل كان وثيقة إدانة تاريخية للعنصرية والتمييز ضد المستضعفين في المجتمع. يسلط التقرير الضوء على زاوية الإعاقة التي كانت محور القضية برمتها.

قصة فيلم أن تقتل طائرا بريئا

تتمحور المأساة حول شخصية توم روبنسون العامل الأسود البسيط في الجنوب الأمريكي. وفقا لأحداث الفيلم، يتهم توم زورا بالاعتداء الجسدي العنيف على فتاة بيضاء. المفارقة الكبرى أن توم يعاني من إعاقة جسدية واضحة ودائمة ومؤثرة. وتتمثل هذه الإعاقة في شلل وضمور كامل في ذراعه اليسرى بالكامل. هنا تبدأ معركة الحقيقة بين الجسد العاجز والأحكام المسبقة العمياء.

ويكشف الفيلم عن سبب إعاقة توم خلال جلسات المحاكمة المتوترة جدا. حيث تعرض في طفولته لحادث مروع داخل آلة حلج القطن. وبعدها نتج عن الحادث تمزق العضلات والأوتار مما جعل ذراعه اليسرى بلا فائدة. وهكذا أصبحت يده أقصر من اليمنى وتتدلى بجانبه كقطعة قماش ميتة. هذه التفصيلة الطبية ليست هامشية، بل هي حجر الزاوية في دفاعه.

ويعد مشهد المحكمة أحد أعظم المشاهد في تاريخ السينما العالمية والإنسانية. حيث يطلب المحامي أتيكوس فينش من المتهم الوقوف أمام هيئة المحلفين. وفجأة، يرى الجميع الذراع اليسرى المتدلية بلا حراك بجانب جسد توم. يلتقط المتهم الكوب بيده اليمنى بصعوبة، مظهرا عجزه التام عن استخدام اليسرى. لهذا يصبح المشهد دليلا بصريا قاطعا على استحالة ارتكاب توم للجريمة.

الإعاقة كدليل جنائي

تعتمد الحجة الدفاعية بالكامل على التحليل الطبي والمنطقي لنوع الإعاقة. إذ أكدت التقارير والشهود أن الضحية تعرضت للضرب المبرح على الجانب الأيمن. وهذا يعني أن المعتدي يجب أن يكون شخصا أعسر يتمتع بقوة بدنية. بينما توم لا يستطيع حتى رفع يده اليسرى أو استخدامها نهائيا. بذلك، تتحول الإعاقة هنا إلى صك براءة بيولوجي لا يقبل الشك.

رغم وضوح الدليل الطبي، إلا أن النهاية كانت مأساوية وصادمة. في الحقيقة، يطرح الفيلم إشكالية خطيرة حول إنكار الإعاقة حين تتعارض مع الأهواء. لقد اختارت هيئة المحلفين تصديق الرواية العنصرية الكاذبة وتكذيب الواقع الجسدي. يظهر هذا أن المجتمع قد يقرر أحيانا عدم رؤية الإعاقة عمدا.

يقدم الفيلم درسا مبكرا فيما نسميه اليوم بمفهوم التقاطعية الحقوقية. كان توم ضحية لتمييز مزدوج ومركب: لونه الأسود وإعاقته الجسدية. لم ينظر المحلفون إليه كشخص ذي إعاقة يستحق الرحمة أو العدالة المنطقية. بل رأوه وحشا مفترضا، متجاهلين تماما عجزه الجسدي الواضح أمام أعينهم. هذه النظرة الانتقائية هي أخطر ما يواجه المهمشين في الأنظمة الظالمة.

أداء بروك بيترز في أن تقتل طائرا بريئا

قدم الممثل الراحل بروك بيترز أداء تمثيليا يدرس في معاهد السينما. لم يلجأ الممثل إلى المبالغة في استعراض العجز الجسدي لاستجداء العاطفة. بدلا من ذلك، جسد حالة اليأس الهادئ لرجل يدرك أن جسده لن ينقذه. استطاع بيترز أن ينقل بعينيه فقط مرارة الظلم وقسوة العجز المزدوج. كان صوته المرتجف وهو يقسم اليمين يعكس انكسار الروح والجسد.

يحمل عنوان أن تقتل طائرا بريئا رمزية عميقة تخص ذوي الإعاقة. يرمز الطائر المحاكي إلى الكائنات المسالمة التي لا تسبب ضررا لأحد. لذلك، يعتبر قتلها خطيئة كبرى لأنها تمنح العالم الجمال والغناء فقط. يمثل توم هذا الطائر، فهو رجل معاق ومسالم دمرته قوى الشر. قتله لم يكن تطبيقا للعدالة، بل كان اغتيالا للبراءة والعجز معا.

ولعب النجم غريغوري بيك دور المحامي الذي دافع عن الإنسانية قبل المتهم. حسب تصنيف معهد الفيلم الأمريكي (AFI)، يعتبر فينش البطل السينمائي الأول تاريخيا. يعود ذلك لدفاعه المستميت عن رجل معاق ومهمش ضد تيار المجتمع الجارف. يؤكد هذا التصنيف أن البطولة الحقيقية تكمن في نصرة الضعفاء والمختلفين.

طالع: «فيلم خريطة رأس السنة».. مغامرة سينمائية عن متلازمة داون بدور العرض اليوم

الدرس المستمر لعام 2025

رغم مرور أكثر من ستين عاما، لا تزال الرسالة حية. اليوم، لا يزال ذوو الإعاقة يواجهون تحديات في تصديقهم داخل أروقة العدالة. سواء كان ذلك في قضايا العنف أو التمييز في أماكن العمل. يذكرنا الفيلم بأن الدليل المادي قد يسقط أمام الدليل النفسي التحيز. علينا أن نكون أكثر وعيا حتى لا نكرر مأساة توم روبنسون.

غلاف رواية To Kill a Mockingbird
غلاف رواية To Kill a Mockingbird

يعلمنا الفيلم أهمية التمسك بالأدلة المادية والعلمية في مواجهة الشائعات. كانت الذراع المشلولة دليلا أقوى من دموع الضحية الكاذبة وشهادة والدها. لكن العاطفة الجمعية الهائجة تغلبت على المنطق العلمي البارد في قاعة المحكمة. هذا تحذير دائم من خطورة تغييب العقل عند الحكم على الآخرين.

وينتهي مسار توم في القصة بمحاولة يائسة للهرب من السجن. أدى ذلك إلى قتله برصاص الحراس وهو يحاول تسلق السياج بيد واحدة. حتى في لحظة موته، كانت إعاقته سببا في عجزه عن النجاة. تؤكد هذه النهاية السوداوية أن النظام لم يترك له أي فرصة للحياة.

الفيلم كمرجع حقوقي

وهناك العديد من الكتب الأكثر مبيعا، لكن قليلا منها ما يبقى في الذاكرة. رواية هاربر لي، التي استُوحي منها هذا الفيلم، رسّخت ولاءً استثنائيا وولاءً شخصيًا عميقًا لدى قرائها. يجسّد سيناريو هورتون فوت سحر الرواية، وعمق مشاعرها، وتجسيد شخصياتها بدقة، وروح الدعابة فيها، وخاصةً عظمة البسطاء – أطفالا وكبارا – وهم يواجهون معضلات الحياة وتحدياتها. حسب موقع هوليوود ريبورتر.

يستخدم الحقوقيون هذا الفيلم حتى اليوم كمرجع في دراسات التمييز. يتم عرضه في كليات القانون لشرح مخاطر التحيز اللاواعي ضد الأقليات. كما يستخدم في ورش التوعية بحقوق ذوي الإعاقة وكيفية التعامل معهم. يظل العمل منارة فنية تضئ جوانب مظلمة في النفس البشرية.

في الختام، تظل ذكرى عرض هذا الفيلم مناسبة للتأمل والمراجعة الأخلاقية. لقد وضع أمامنا مرآة تعكس قبح التمييز بكل أشكاله المقيتة. أثبتت قصة توم أن الإعاقة قد تكون دليلا ناصعا للحقيقة والبراءة. لكن العدالة تحتاج دائما إلى عيون ترى القلوب لا الأجساد فقط.

المقالة السابقة
مصر تسلم 2833 بطاقة خدمات متكاملة لذوي الإعاقة بمحافظة الشرقية
المقالة التالية
وصول 400 لاجئ سوداني من ذوي الإعاقة إلى معسكر «كرياندونغو» في أوغندا