في لحظة يُفترض أن تكون من أكثر لحظات الحياة خصوصية وإنسانية. لم يكن حضور محمد شحاتة، مترجم لغة الإشارة الذي يعمل في هذا المجال منذ أكثر من ثماني سنوات، بهدف لفت الأنظار أو خطف الأضواء، بل على العكس تمامًا، كان حضوره هادئًا في شكله، عميقًا في معناه، ليؤدي دورًا صامتًا في ظاهره. لكنه جوهري في مضمونه، بأن يكون الجسر بين المعنى والحق في الفهم.
ومن هنا، لم يكن مستغربًا أن يثير فيديو ترجمته لمراسم «كتب كتاب» شاب من الصم. والذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، تساؤلات تتجاوز حدود المشهد المؤثر نفسه. فقد فتح الفيديو بابًا لأسئلة أوسع وأعمق. تتعلق بحق الوصول، وغياب لغة الإشارة عن تفاصيل الحياة اليومية. فضلًا عن التساؤل حول سبب استمرار التعامل مع مثل هذه اللحظات بوصفها استثناءً، لا ممارسة طبيعية ومألوفة.
كواليس فيديو ترجمة «كتب الكتاب»
وفي هذا الحوار لـ«جسور» ، يتوقف الشاب المصري محمد شحاتة عند كواليس ترجمة «كتب الكتاب». كما يميّز بين الترجمة بوصفها مهارة لغوية في حد ذاتها. وكذلك الترجمة كمسؤولية أخلاقية وإنسانية، تتجاوز نقل الكلمات إلى حفظ المعنى وكرامة الإنسان.
- كثيرون شاهدوا فيديو ترجمتك لـ«كتب كتاب» شاب من الصم. بماذا شعرت في هذه اللحظة؟ وهل كان الموقف مختلفًا عن أي ترجمة أخرى؟
– شعرت بالفرحة الممزوجة بالمسؤولية. وهي مسئولية كبيرة قبل أي شعور آخر لاني أقدم شيئا مهما فى موقف حساس دينيا وإنسانيا. والترجمة فى هذا الموقف مختلفة فهى لحظة لا تستدعي الإبهار بقدر ما تحتاج خلفية ثقافية ومهنية دقيقة للمترجم.

- هل هذا أول كتب كتاب تترجمه للغة الإشارة؟
– لم تكن هذه هى المرة الأولي. ولكن ربما هى المرة العاشرة التى أترجم فيها مراسم كتب كتاب بلغة الإشارة. وذلك في محافظات مصرية مختلفة؟
الجزء الأصعب في ترجمة مراسم «كتب الكتاب» بلغة الإشارة
_ماذا كان أصعب جزء في ترجمة مراسم «كتب الكتاب» بلغة الإشارة، خاصة مع الطابع الديني واللغوي للنص؟
بالنسبة لصيغة الإيجاب والقبول، فهي موحّدة ومعروفة. وكذلك أنا متمرّس عليها بحكم خبرتي في عقود قران سابقة فهذا ليس صعبا عليَّ. لكن الجزء الذى أعتبره ممتعا فعلًا وليس صعبا. هو المقدمة أو الخطبة اللي يلقيها المأذون في بداية المراسم. أحب ترجمة هذا الجزء واستمتع باللغة والمعاني به. كما أنني بصراحة أجري تقييما شخصيا لنفسي دون أن يلحظ أحد إن كان المأذون متمكّن لغويًا؟ هل الخطبة واضحة؟. هل المعنى واصل لكل الناس؟. بالتأكيد هذا التقييم يجعلني أستمتع بالترجمة.
- هل فوجئت بحجم التفاعل؟ وهل كان التركيز على القصة الإنسانية أم على غرابة المشهد؟
لم يكن الفيديو الأكثر مشاهدة. فلدي فيديو ترجمه لكتب كتاب حقق أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المشاهدة. ولم يحدث مثل ما حدث. وأعتقد أن جزءا من هذا التفاعل كان إنسانيًا صادقًا، وجزءا أخر للأسف ركّز على «غرابة» المشهد. وهذا يؤكد أننا لا زلنا بحاجة لزيادة وجود لغة الإشارة في المجتمع حتى تصير مشهدا عاديا وليس «تريند».

دمج الصم لم يتحول بعد لسياسات واضحة وملزمة
- برأيك، لماذا لا تزال مثل هذه اللحظات استثناء وليست ممارسة طبيعية؟
– لأن الوعي ما زال جزئيئا، ولأن دمج الصم لم يتحول بعد لسياسات واضحة وملزمة. وطالما كانت الترجمة اختيارية، ستظل استثناء.
- هل ترى أن وجود مترجم لغة إشارة في المناسبات الاجتماعية يجب أن يصبح أساسًا وليس مجرد مبادرة فردية؟
– بالتأكيد. هذا حق أساسي من حقوق الوصول والتواصل، وليس تفضلا ولا مجهود شخصي. عندما يتحول لشيء أساسي سوف نرى دمجا حقيقيا وليس شكليا.
- بعد رواج الفيديو.. هل تلقيت طلبات مشابهة لمناسبات أخرى؟
– نعم، وصلتني طلبات لمناسبات اجتماعية ودينية مختلفة. وهذا مؤشر إيجابي يعني أن الوعي يزيد. واخرهم كان أول أمس. وذلك من خلال عقد قران بمدينة نصر. ووالد العروسة من الصم. لكن الأهم أن يستمر هذا الوعي ويتحوّل لثقافة عامة وليس مرتبطا بالترند.
بداية الرحلة مع لغة الإشارة
- كيف بدأت رحلتك مع لغة الإشارة؟ ومتى شعرت أن هذا الطريق رسالة وليس مجرد مهنة؟
– بدأت رحلتي في يوم عادي، بينما كنت أشاهد برنامجًا تلفزيونيًا، حين لفت انتباهي حديث الفنانة التشكيلية حنان النحراوي، وهي من الصم، وكانت تتكلم بانفعال حقيقي عن قلة عدد مترجمي لغة الإشارة المؤهلين. وقتها، أثّر كلامها فيّ بشدة، ولم يكن مجرد حديث عابر. ومن هنا تحديدًا، اتخذت قرار تعلّم لغة الإشارة، لا بدافع الفضول، وإنما بدافع إحساس عميق بالمسؤولية، وكذلك دافع إنساني سبق أي تفكير مهني.
بعد ذلك، جاء الاحتكاك الأول المباشر مع أشخاص من الصم، وهناك بدأت أكتشف شيئًا فشيئًا أنني أمام عالم كامل، مليء بالمشاعر والأفكار والتجارب. لكنه في الوقت نفسه معزول، ليس لغياب الصوت. بل لغياب التواصل.
أما اللحظة الفارقة الحقيقية، فكانت عندما رأيت أثر الترجمة المباشر على حياتهم اليومية. وذلك من خلال المشاركة، والشعور بالاندماج في اللحظة. ومن هنا أدركت أن ما أقوم به ليس مجرد مهنة فحسب. بل واجب إنساني وأخلاقي. ومن هنا، واصلت تطوير نفسي باستمرار، مهنيًا ولغويًا، إلى أن أصبحت مترجم لغة إشارة معتمدًا من عدد من الجهات داخل مصر وخارجها، من بينها المنظمة العربية لمترجمي لغة الإشارة، والاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم، وجمعية الصم للتنمية بالشرقية، وأخيرا جمعية الصم بالمرج بالقاهرة.

المناسبات الاجتماعية والدينية الأقرب لحياة الإنسان اليومية
- هل ترى أن ترجمة لغة الإشارة في المناسبات الاجتماعية والدينية ما زالت مهمشة مقارنة بالمؤتمرات الرسمية؟
– للأسف نعم. رغم إن المناسبات الاجتماعية والدينية هي الأقرب لحياة الإنسان اليومية، إلا إن وجود مترجم لغة إشارة فيها ما زال يُنظر له كـ «مبادرة فردية» وليس حقا أساسيا. حتى في المؤتمرات الرسمية، تحتوى على تقصير واضح أحيانًا، وكثيرا منها يُقام دون وجود مترجم لغة إشارة، مما يؤثر على حق الصم في المتابعة والمشاركة.
- ما أصعب موقف إنساني مررت به أثناء الترجمة وبقي أثره معك حتى اليوم؟
أصعب موقف مرّ عليّ في مشواري كمترجم لغة إشارة كان مع شخص أصم. عندما حضرت معه إلى الطبيب لفحص عينيه. في البداية، شرع الطبيب في الفحص، ثم صمت قليلًا، وظهر على ملامحه شيئا غير مطمئن. بعد لحظات، قال بهدوء: «للأسف، مفيش أمل». كانت حالة المريض هي «العشى الليلي»، وهو مرض يصعب معه الإبصار ليلًا أو في الإضاءة الضعيفة.
في تلك اللحظة، كان الأصم ينظر إليّ مستفسرًا بعينيه عمّا قاله الطبيب. وهنا تحديدًا شعرت بتجمّد يديّ وعجز كامل عن الحركة. كنت متحيّرًا بين خيارين كلاهما قاسٍ: هل أبلغه بالحقيقة كما هي، بكل قسوتها؟.،أم أبحث عن طريقة أخرى تحميه نفسيًا في تلك اللحظة؟ وعندما بدأ الطبيب يصف له بعض الفيتامينات، وهي ليست علاجًا حقيقيًا بل مجرد دعم. اخترت ألّا أبلغه بالحقيقة الكاملة في وقتها، وبعد أن خرجت من العيادة. كانت الأفكار تأكل رأسي: كيف سيعيش؟ كيف سيكمل حياته؟ وكيف سيكون مستقبله؟
أبرز التحديات التي يواجهها مترجمو لغة الإشارة
– وما الذي خرجت به من هذا الموقف؟
– هذا الموقف جعلني أدرك بعمق مدى ضرورة وحيوية دور مترجم لغة الإشارة. فهو ليس مجرد ناقل كلمات. بل يحمل مسؤولية إنسانية وأمانة. وأحيانًا عبء نفسي ثقيل. ومن هنا، حمدت الله على العمل في مجال ترجمة لغة الإشارة، وأن أكون أذن الشخص الأصم ولسانه الناطق، وحمدت الله كذلك على نعم كثيرة نغفل عنها دون أن نشعر.
- غياب مترجم لغة الإشارة في المستشفيات قد يهدد حياة المرضى الصم. لماذا لا تزال هذه الخدمة غائبة؟ وهل طالبتم بوجود مترجم دائم في كل مستشفى؟
– لا للاسف. عندما يمرض أحد الأشخاص من الصم والبكم يرافقه أحد أقاربه. لكن للأسف هذا يؤدي إلى الكثير من التشخيصات الخاطئة بسبب أخطاء أو إنعدام الترجمة عندما يعجز هذا الشخص عن إيضاح مشكلته أو مايشعر به. ونحن نطالب وزارة الصحة بضرورة توفير مترجم إشارة فى كل مستشفى بشكل رسمي. أحيانا المترجمين يعملون بشكل تطوعي فى هذه الحالات لكن هذا فقط عندما يستطيع المريض الأصم الوصول لمترجم.
- ما أبرز التحديات التي يواجهها مترجمو لغة الإشارة في مصر حاليًا؟
– غياب الاعتماد الرسمي، والافتقار للتنظيم الواضح. وكذلك قلة الوعي بالدور الحقيقي للمترجم وحدود مسؤوليته. وضعف الدعم المادي والمعنوي في بعض القطاعات. وكل هذا يؤثر على جودة الخدمة وعلى حقوق الصم والمترجمين معًا.
- هل ترى أن انتشار فيديوهات الترجمة على السوشيال ميديا ساهم في رفع الوعي أم اختزل القضية؟
– الانتشار ساهم في رفع الوعي جزئيًا، وأحيانًا تُختزل القضية في «لحظة مؤثرة» بدلا من أن تكون ممارسة طبيعية. فالترجمة ليست مشهدا استثنائيا. ولذلك نحن في حاجة إلى تحويل التعاطف المؤقت لوعي مستمر وتشريعات واضحة.
تدريب مستمر وإشراف. وجهة رسمية
- ما هى معايير اعتماد مترجمي لغة الإشارة في مصر؟
– المعايير ما زالت غير موحدة بالشكل الكافي، ونحتاج إلى: نظام اعتماد مهني واضح. إضافة إلى تدريب مستمر. إلى جانب إشراف. وجهة رسمية تنظم وتقيّم الأداء. وهذا سوف يحمي الصم من الترجمة غير الدقيقة ويحمي المترجم نفسه مهنيًا.
لغة الإشارة حق لا يرتبط بشهرة أو«تريند»
- ما النصيحة التي تقدمها للشباب الراغبين في تعلم لغة الإشارة والعمل بها مهنيًا؟
أنصحهم بدخول المجال بدافع إنساني قبل أي شيء. وكذلك التعليم من مصادر موثوقة ومع الصم أنفسهم. وإدراك أن الترجمة مسؤولية، وليست شهرة. ومن المهم التطوير باستمرار لغويًا وثقافيًا وأخلاقيًا.
- ماهي أمنياتك للغة الإشارة في الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية خلال السنوات المقبلة؟
– أتمنى أن تكون لغة الإشارة جزءا أساسيا وطبيعيا في الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية. وليس مجرد إضافة اختيارية. إن وجود مترجم لغة إشارة لابد وأن يكون شيئا ثابتا. حتى يشعر الأصم بأنه جزء أصيل من المجتمع وليس متفرج من بعيد.
- ما الحلم الذي تسعى لتحقيقه من خلال عملك مع الصم؟
– أن تكون لغة الإشارة حق لا يرتبط بشهرة أو«تريند». أحلم أن يتعلم الصم بشكل طبيعي، ويستطيعون فهم العالم من حولهم دون الشعور بأنهم استثناء . أسعي إلى نشر الوعي بدور مترجم الإشارة ، ووجود تأهيل حقيقي يحفظ كرامة الصم والمترجمين معًا.


.png)


















































