إيطاليا – جسور – فاطمة الزهراء بدوي
بعيدًا عن البريق الهوليوودي، الذي أحاط بفيلم Scent of a Woman، تعود الرواية الإيطالية الأصلية Il Buio e il Miele (الظلام والعسل) التي كتبها جيوفاني آربينو عام 1969 لتكشف عن حكاية أكثر تعقيدًا، حيث يتقاطع العجز الجسدي بالغضب الداخلي، وتتشكل العلاقات عبر الصدام والعزلة والصدق الوحشي.
في قلب الرواية، يقف “فاوستو”، ضابط سابق فقد بصره، وأُصيب بعجز دائم، إثر انفجار قنبلة أثناء الخدمة، يقرر فاوستو الانطلاق في رحلة عبر إيطاليا، تمتد من جنوة إلى روما وصولًا إلى نابولي، برفقة جندي شاب يلعب دور مرافِقه ودليله. على مدار أسبوع، تتكشف العلاقة بين الرجلين في إطار من التوتر والرفض والاختبار المتبادل، حيث لا تُبنى الثقة على المجاملة، ولكن على صراحة قاسية وواقعية.
يقدم آربينو بطله بعين ساخرة ومجردة من الرومانسية الزائفة. ليس شخصية بطولية رغم إصابته، ولا شهيدًا للضعف. حيث أنه شخصية مدمرة ذاتيًا، غارقة في العدمية، تحتفي بضعفها بصوت عالٍ، وتُفجر كل محاولات التهدئة أو التعاطف. يرى آربينو أن العمى ليس مأساة إغريقية، ولكنه “مصيبة” عادية، تعامل معها بطريقته الجافة والساخرة، بعيدًا عن الميلودراما.
رحلة فاوستو والجندي تشبه ملحمة عكسية، رحلة بطل مضاد لا يبحث عن الخلاص، بل عن الهاوية.. كل محطة في الطريق تكشف تناقضاته: قسوته الشرسة، حساسيته المفرطة، خجله المتخفي، وشعوره المتجذر بالعجز العاطفي.. ومع مرور الوقت، يبدأ الجندي في فهم فاوستو، من خلال رصد انكساراته الصغيرة، وتعقيداته النفسية التي لا يعترف بها.
يتميز النص بلغة حادة، ساخرة، متقشفة، لكنها في لحظات معينة تنبض بعذوبة مفاجئة. عنوان الرواية الأصلي “الظلام والعسل” يلخص هذا التناقض: عالم فاوستو مظلم، لكن فيه لحظات حلاوة خاطفة، غالبًا ما تظهر عندما يقترب من الحب، أو من الإيمان بشيء خارج نفسه.
تأتي النهاية دون حل، دون تطهر أو انكشاف، بل بتلميح فلسفي مفتوح حول الموت والصمت والانكسار. يقول الراوي في الفصل الأخير: “هناك نوع من الرجال لا يُمكن شرحه إلا بالموت”. وبهذه العبارة، يختتم روايته، تاركًا فراغًا مقصودًا لا يمثل موتًا حقيقيًا، ولكن منطقة غامضة بين الفهم واللاجدوى.
رغم أن الرواية تُرجمت إلى عدة لغات، وأعيد اكتشافها مؤخرًا بفضل الترجمة الدقيقة التي أنجزتها آن ميلانو آبل، إلا أن حضورها لا يزال محدودًا مقارنة بشهرة الفيلم الأمريكي الذي حمل اسمها. المفارقة أن الرواية لا تحمل هذا العنوان في الأصل، وأن فيلمي 1974 و1992 استحوذا على اسمها، بينما بقيت هي في الظل، رغم عمقها الفني والنفسي.
العمل ليس عن الإعاقة فحسب، ولكنه عن الكرامة المُدماة، عن العلاقات البشرية عندما تُبنى على الندية لا الرعاية، وعن صعوبة أن تمنح ثقتك وسط عالم لا يرى إلا ما يريد. قراءة Il Buio e il Miele دعوة لتأمل أعماق النفس البشرية حين تفقد نورها الخارجي وتواجه ظلامها الداخلي.