«أنقذوا بناتنا».. نداء قصير، لكنه يحمل الكثير من الوجع والأمل والرجاء من أمهات يصارعن في صمت من أجل شفاء أطفالهن الذين لا يستطيعون الكلام أو التواصل أو حتى التنفس بانتظام، بسبب اصابتهم بمتلازمة ريت.
عبر إحدى الصفحات على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، تجمعت عشرات القصص والحكايات لأمهات يبحثن عن بارقة أمل.. إنه عالم متلازمة ريت، أو الاضطراب الجيني النادر الذي يسرق من الفتيات الصغيرات أغلى ما يملكن، مثل القدرة على التواصل والحركة وحتى التنفس المنتظم، لكن اليوم لم تعد هذه المعاناة في الظل، فصوت الأمهات يتعالى ويجتمع في نداء واحد .
في عالمها الخاص، تعيش الطفلة مكة محمود أيمن، ذات الثلاث سنوات، بهدوء يملؤه الذكاء والإدراك، مكة، كأي طفلة في عمرها، تدرك كل ما يدور حولها، تلمح الفرح والحزن في عيون من تحب، وتتوق للتعبير عن عالمها الداخلي الغني. لكن صمتا قاسيا يفرض نفسه على حياتها؛ صمت سببه متلازمة ريت.
والدة مكة السيدة سهيلة خالد دسوقي تحمل على عاتقها مسؤولية لا يدركها إلا من عاشها، هي ليست مجرد أم لطفلة، بل هي صوت لطفلة لا تستطيع الكلام، ويد لطفلة لا تستطيع استخدام يديها.

في مناشدة مؤثرة، وجهتها سهيلة إلى أعلى المستويات في الدولة المصرية، من الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة، لتسليط الضوء على معاناة طفلتها وكل طفلة مثلها.
تقول سهيلة في رسالتها: «متلازمة ريت هي اضطراب جيني نادر وخطير، يسرق من الطفلة قدرتها على الكلام واستخدام اليدين والحركة الطبيعية، بل ويؤثر على أبسط وظائف الحياة كالتنفس والتحكم في الجهاز الهضمي.» ورغم كل هذه التحديات، تصر سهيلة على أن مكة طفلة ذكية جدا، تدرك كل ما يدور حولها، لكنها لا تملك وسيلة للتواصل أو التعبير. هذه المفارقة المؤلمة هي ما تدفع الأم للبحث عن أي بصيص أمل.

ليست مكة وحدها
ومكة ليست الوحيدة، بل هي واحدة من أكثر من 100 فتاة في مصر تم تشخيصهن بالمتلازمة، وفقا لشهادات الأمهات، حيث طفال يولدون بشكل طبيعي يضحكون ويبدأون في المشي، ثم فجأة، يتبخر كل هذا النمو ليحل محله التدهور السريع.
تحكي أميرة عصام، والدة الطفلة أسيل، عن معاناتها، بينما تروي أمنية السعيد قصة ابنتها لوسيندا، وتشارك أم أخرى قصة ابنتها روفانا، التي لم تتأخر في تطورها الحركي فقط، بل تعاني أيضا من مشاكل مستمرة في الجهاز التنفسي والهضمي، وتشنجات في المخ.
وتضيف أم حبيبة البسيوني: «بنتي حنين اتولدت طبيعية جدا لحد ست شهور… ومن سنة لحد ٤ سنين بنلف على دكاترة كبار ومحدش عرف الحالة لحد ما تشخصت متلازمة ريت»، الآن حنين تبلغ التاسعة من عمرها، وتتدهور حالتها باستمرار، حيث تتعرض لكسور متكررة وتدخل عمليات جراحية بسببها.
المعركة ليست فقط مع المرض بل مع التشخيص
من خلال قصص الأمهات، تتكشف معاناة أخرى لا تقل صعوبة.. رحلة البحث عن التشخيص الصحيح. تقول والدة روفانا: «كل الدكاترة شخصوها ضمور بالمخ لحد ما روحت لدكتورة في القاهرة طلبت تحاليل جينات أثبت أن عندها متلازمة ريت».
رحلة التشخيص قد تستغرق سنوات، وتهدر خلالها موارد الأسرة في علاجات غير مجدية، ويزداد خلالها المرض سوءا.
قصة براءه، كما ترويها والدتها، هي مثال صارخ على هذه المعاناة، الطفلة ولدت بمشاكل صحية منذ اليوم الأول، وعانت من الإعاقة وفقدان البصر بسبب مرض جيني نادر، حتى تم تشخيصها بمتلازمة ريت في عمر الخامسة، تقول والدتها: «اتشخصت حاجات كتير واخدة أدوية كتير ومن دكتور لدكتور وكل واحد تشخيص مختلف… لحد ما تمت 5 سنين اتشخصت (متلازمة ريت)». هذه القصص تسلط الضوء على الحاجة الماسة لزيادة الوعي بالمتلازمة بين الأطباء المتخصصين، وتوفير الفحوصات الجينية الضرورية.

رحلة مع مرض يسرق الطفولة
متلازمة ريت ليست مجرد مرض، بل هي رحلة معقدة تمر بأربع مراحل، تبدأ ببطء وتتطور إلى تدهور سريع في المهارات التي اكتسبتها الطفلة. فبعد أشهر من النمو الطبيعي، تتراجع الطفلة تدريجيا عن المهارات التي تعلمتها، ويظهر سلوكيات حركية مميزة للمتلازمة، مثل حركات اليدين المتكررة التي تشبه التصفيق أو الفرك. هذه الأعراض ليست سوى جزء من الصورة الكاملة، حيث تعاني المصابات بالمتلازمة أيضا من نوبات صرع، واضطرابات في التنفس، وصعوبات حادة في الجهاز الهضمي.
في مصر وفي العديد من الدول العربية غالبا ما يشخص المرض بشكل متأخر أو يعالج بشكل غير متخصص، مما يزيد من معاناة الأطفال وأسرهم. فالرعاية المتكاملة لهؤلاء الأطفال تتطلب فريقا طبيا متعدد التخصصات يشمل أطباء أعصاب، وأخصائيين في العلاج الطبيعي والتخاطب، وأخصائيين نفسيين، وغيرهم.
بارقة أمل في الأفق
هناك أمل هذا ما تؤكد عليه الأمهات إذ يوجد علاج اسمه Daybue يقلل من أعراض المرض بشكل كبير، وهناك أيضا علاج جيني واعد لا يزال تحت التجربة، ولكن هذه العلاجات المتطورة، ومعظمها متاح في الخارج، بتكلفة عالية جدا لا يستطيع تحملها الأفراد.
من هنا، يأتي نداء مجتمع أهالي وأطفال متلازمة ريت في مصر، الذي تم تدشين صفحة على فيسبوك للتعبير عنه، تطالب بإدخال المرض ضمن برامج التأمين الصحي الشامل، وهذه هذه الخطوة ستفتح باب الأمل أمام مئات الأسر، وتجعل العلاج والرعاية في متناول الجميع.
كذلك المطالبة بتوفير علاج Daybue والعلاج الجيني فور اعتماده، وإيجاد قنوات للتواصل مع المنظمات الدولية التي تدعم أطفال متلازمة ريت.
فضلا عن المطالبة بإنشاء وحدة متخصصة تجميع كافة التخصصات الطبية اللازمة (أعصاب، وراثة، علاج طبيعي، تخاطب، نفسي) في مكان واحد يسهل عملية الرعاية ويضمن جودتها.
إن صوت هؤلاء الأمهات ليس مجرد طلب للمساعدة، بل هو إعلان عن وجود مجتمع كامل يحارب من أجل حياة كريمة لأطفاله.
تقول أم فريدة: «فريدة يا حبيبتي أنا وراكي وهفضل طول عمري جنبك… مفيش حاجة في الدنيا هتوقفني ولا هتعطلني».
هذا الصمود، وهذه الإرادة، تستحق أن تسمع. كل طفلة مصابة بمتلازمة ريت، وكل أم تكافح من أجلها، تستحق أن تجد يدا تمتد لها. ففي نهاية المطاف، كل بنت تستحق أن تحب وترى ويسمع صوتها.. حتى لو لم تكن تتكلم.