أثبتت تجارب موسيقيين ومطربين فقدوا البصر منذ مولدهم، أو في وقت مبكر من حياتهم، أن الإبداع الفني لا يشترط سلامة الحواس الخمس، ولا تقف الإعاقة حاجزًا أمام موهبتهم، وفي كثير من الأوقات تحول العمى لدافع حقيقي لتعزيز حواس أخرى لديهم، أبرزها السمع واللمس، مما مكّنهم من إنتاج تجارب موسيقية وغنائية بالغة الخصوصية ومفعمة بالإحساس.
من مصر إلى اليابان، ومن مالي إلى كوبا ثم العودة إلى فرنسا، تتكرر الإعاقة وتتكرر معها الظاهرة ذاتها، موسيقيون مكفوفون يحققون نجاحات استثنائية، ويتركون بصمات مؤثرة في وجدان الجمهور، سواء في بلادهم أو حتي على المستوى الفني العالمي.
مصر – عمار الشريعي
ولد الموسيقار عمار الشريعي كفيفًا في صعيد مصر عام 1948، وتلقى تعليمًا موسيقيًا عاليًا في لندن وباريس، ألّف أكثر من 150 لحنًا، تعامل فيها مع كبار المطربين مثل في مصر والوطن العربي، منهم نجاة الصغيرة، وردة الجزائية، وعلي الحجار، ولطيفة، ومحمد الحلو، وترك إرثًا ضخمًا في الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية.

مصر – الشيخ إمام
ولد الشيخ إمام في محافظة الجيزة عام 1918، وفقد بصره رضيعًا، بدأ مشواره بإنشاد ديني وتحول إلى “صوت الغضب الشعبي” بأغانيه السياسية، وكون ثنائيا مع شاعر العامية الشهير أحمد فؤاد نجم، ومن أشهر أغانيه “جيفارا مات”، متحديًا الأنظمة والرقابة الفنية.

اليابان – Nobuyuki Tsujii
ولد نوبيوكي تسوجي كفيفًا بسبب اضطراب خلقي، وتعلم العزف على البيانو، معتمدا بشكل كامل على السمع، وحواز جوائز دولية مرموقة، منها في مسابقة “شوبان”، ويؤدي مقطوعات كلاسيكية دون قراءة النوتة، معتمدًا على تسجيلات وحفظ دقيق.

مالي – Amadou Bagayoko
أمادو باكايوكو فقد بصره نتيجة الساد، وهو مرض يصيب العين بالعتمة وتفقد القدرة على الرؤية بشكل تدريجي، ودرس في معهد المكفوفين بباماكو، ثم شكّل مع زوجته مريم ثنائي “Amadou & Mariam“، ووصلا إلى العالمية من خلال مزج الموسيقى الإفريقية بالبلوز والبوب، توفي عام 2025 عن 70 عامًا.

كوبا – Frank Emilio Flynn
أصيب فرانك إيمليو بالعمى في سن المراهقة، واشتهر بأسلوبه في الجاز الكوبي، معتمدًا على براعة العزف على البيانو باستخدام نوتات برايل لمؤلفات كلاسيكية وجازية.
مزج فرانكو بين الجاز والموسيقى الكوبية التقليدية، وكان من رواد تطوير “اللاتين جاز” قاد فرقة “كوينتتو كوبانو موديرنو” وابتكر أساليب جديدة في العزف رغم فقدانه البصر، من أبرز أعماله: “Amor y Piano“، وأثره باقٍ في الجاز الكوبي.

فرنسا – Gilbert Montagné
ولد جلبرت أعمى بسبب خطأ طبي، وحقق شهرة عالمية كمغنٍ وملحن، بألبومات تجاوزت مبيعاتها 20 مليون نسخة، وأغانٍ ناجحة مثل The Fool.
اشتهر عالميًا في الثمانينات، وحقق نجاحًا كبيرًا بأغنيته الأشهر “On va s’aimer“، التي أصبحت أيقونة رومانسية، جمع بين البوب والموسيقى الراقصة، وله حضور قوي في الحفلات الحية، ويُعد من أبرز الفنانين المكفوفين في أوروبا.

كيف يصنع العمى موسيقيين موهوبين؟
- اللدونة العصبية (Neuroplasticity)
تشير دراسات علم الأعصاب إلى أن القشرة البصرية لدى المكفوفين تُعاد برمجتها لتُعالج مدخلات سمعية ولمسية بدلاً من البصرية، هذا يعزز القدرة على تمييز النغمات الدقيقة والتفاصيل الإيقاعية، مما يفسر قدرة الكثير من العازفين المكفوفين على الأداء بحساسية مفرطة.
- التعويض الحسي والتعلم البديل
حيث يتعلم المكفوفون الموسيقى بطرق غير تقليدية، مثل استخدام نوتة برايل، كما تفعل أوركسترا “النور والأمل” في الإسكندرية، والاعتماد على التسجيلات الصوتية، كما يفعل Nobuyuki Tsujii، إضافة إلى التعلم باللمس والاهتزاز، كما في حالة Helen May Martin التي تعلمت العزف رغم كونها صماء وعمياء.
- الدعم الاجتماعي والبيئي
المعاهد المتخصصة مثل معهد المكفوفين في مالي، أو مراكز التعليم الموسيقي في مصر واليابان، تلعب دورًا حاسمًا في احتضان المواهب وتوفير أدوات تعليمية متخصصة، الدعم الأسري، المجتمعي، أو حتى الديني، كما في حالة الشيخ إمام، يساعد في تشكّل الشخصية الفنية.
- البُعد النفسي والإصرار الشخصي
الموسيقى بالنسبة للمكفوفين ليست فقط مهنة، بل وسيلة للتعبير، وسلاح نفسي لمواجهة التهميش والتمييز، في حالات كثيرة، تكون الفن وسيلة لبناء الهوية واستعادة الكرامة، كما فعلت فرقة Inner Vision Orchestra في لندن، التي تأسست لمواجهة عزلة المكفوفين في المجتمعات الغربية.