اليوم العالمي للعربية.. هل لغتنا الجميلة متاحة للجميع؟

اليوم العالمي للعربية.. هل لغتنا الجميلة متاحة للجميع؟

المحرر: محمود الغول - مصر
اليوم العالمي للعربية

يحل علينا اليوم الثامن عشر من ديسمبر، ليحمل معه عبق التاريخ وسحر البيان، إنه اليوم العالمي للعربية. لغة الضاد كما نعرف. ففي هذا اليوم من عام 1973، اعتمدت الأمم المتحدة لغتنا كأحد اللغات الرسمية الست. عادة ما نملأ هذا اليوم بقصائد الفخر، وندوات عن المعلقات، واحتفاء بجمال الخط العربي.

لكن، وفي خضم هذه الاحتفالات، يغيب عن المشهد سؤال جوهري وإنساني للغاية: هل هذه اللغة العظيمة متاحة حقا لكل أبنائها؟ تحديدا، هل يستطيع الكفيف تصفح المحتوى العربي الرقمي بسهولة؟ وهل يجد الأصم ترجمة موحدة تفك عزله؟ لذلك، نخصص هذه المساحة لنناقش الوجه الآخر للاحتفال: «إتاحة المحتوى العربي» كحق أصيل وليس رفاهية تقنية.

اليوم العالمي للعربية .. والفجوة الرقمية

بينما تتسابق اللغات العالمية لتطوير أدواتها الرقمية لتكون صديقة لذوي الإعاقة، لا تزال لغتنا العربية تعاني من فجوة ملحوظة. في الواقع، يواجه المستخدم العربي من ذوي الهمم تحديات مضاعفة مقارنة بنظيره الذي يستخدم الإنجليزية. حيث تفتقر الكثير من المواقع والمنصات العربية إلى أبسط معايير «إمكانية الوصول».

وفقا لتقارير تقنية من بينها ما نشر في بي بي سي عربية. تحت عنوان «المحتوى الرقمي العربي». فإن نسبة كبيرة من المحتوى العربي على الإنترنت غير مهيئة للتعامل مع البرمجيات المساعدة. بمعنى آخر، نحن نملك لغة غنية بالمفردات، لكننا نملك فقرا مدقعا في «البنية التحتية الرقمية» التي توصل هذه المفردات للجميع. هنا تكمن المعضلة الحقيقية التي يجب أن نتحدث عنها في اليوم العالمي للعربية.

يعتمد الأشخاص المكفوفون وضعاف البصر بشكل كلي على برمجيات قارئات الشاشة مثل NVDA وJAWS. هذه البرمجيات تقوم بتحويل النصوص المكتوبة إلى كلام مسموع. لكن المشكلة تظهر بوضوح عند التعامل مع النصوص العربية غير المشكلة حروفها أو المواقع ذات التصميم البرمجي السيء.

في كثير من الأحيان، تقرأ هذه البرمجيات الكلمات بشكل خاطئ تماما بسبب غياب التشكيل الذي يغير المعنى (مثل الفرق بين عَلم وعِلم). علاوة على ذلك، يعاني المحتوى العربي من غياب الهيكلة الدلالية. مما يجعل القارئ يقفز بين النصوص بشكل عشوائي يشتت ذهن المستخدم الكفيف. لذا، تصبح رحلة البحث عن معلومة بسيطة بمثابة معركة شاقة.

أزمة الإنترنت الصامت

من أبجديات إتاحة الويب هو استخدام النص البديل (Alt Text) لوصف الصور والرسومات. للأسف، يتجاهل السواد الأعظم من صناع المحتوى والمطورين العرب هذه الخاصية. نتيجة لذلك، عندما يمر الكفيف ببرنامجه على صورة في موقع عربي، يسمع عبارة صورة أو رقم الملف فقط، دون أن يعرف محتواها.

في اليوم العالمي للعربية، يجب أن ندرك أن الإتاحة تعني أن ننقل المعنى الكامل للصورة عبر الكلمات. تخيل أن يقرأ الكفيف خبرا، لكنه لا يستطيع فهم الإنفوجرافيك المرفق الذي يلخص الموضوع. هذا التجاهل يحول الإنترنت العربي إلى مساحة صامتة ومظلمة لجزء كبير من مجتمعنا.

وإذا انتقلنا إلى فئة الصم والبكم، نجد تحديا من نوع آخر يتعلق بتوحيد اللغة. فبينما نحتفل باليوم العالمي للعربية كلغة فصحى موحدة تجمع العرب من المحيط للخليج، يعاني الصم من تشتت كبير في لغة الإشارة العربية. حسب تقرير لموقع إندبندنت. حيث تختلف الإشارات المستخدمة في مصر عن تلك المستخدمة في السعودية أو المغرب أو الشام.

رغم وجود جهود لإصدار القاموس الإشاري العربي الموحد، إلا أن تفعيله على أرض الواقع لا يزال محدودا. هذا التشتت يجعل الأصم العربي يشعر بالغربة حتى داخل محيطه العربي الأوسع. لذلك، فإن الدعوة لتوحيد لغة الإشارة هي جزء لا يتجزأ من الحفاظ على الهوية العربية الجامعة.

يعاني الصم من تشتت كبير في لغة الإشارة العربية
يعاني الصم من تشتت كبير في لغة الإشارة العربية

غياب المحتوى المرئي المتاح

مع انفجار المحتوى المرئي (الفيديو) على منصات التواصل، تبرز مشكلة غياب الترجمة المكتوبة (Subtitles) أو الترجمة الإشارية. في الغرب، أصبحت «الكابشن» معيارا إلزاميا في الإعلام الرقمي. أما في عالمنا العربي، فلا تزال نادرة وتعتمد على اجتهادات فردية.

بناء على ذلك، يحرم ملايين الصم العرب من متابعة الأخبار، البرامج التعليمية، والمحتوى الترفيهي بلغتهم الأم. في اليوم العالمي للعربية، يجب أن نتذكر أن اللغة ليست صوتا فقط، بل هي وسيلة تواصل يجب أن تصل للعين كما تصل للأذن. إن حق الأصم في فهم المحتوى لا يقل عن حق السامع.

شهدت السنوات الأخيرة طفرة في صناعة الكتب الصوتية العربية، وهو ما يعد خبرا سارا للمكفوفين. مع ذلك، لا تزال المكتبة الصوتية العربية صغيرة جدا مقارنة بالمطبوعة. إضافة إلى ذلك، تواجه منصات الكتب الصوتية تحديات في الوصول لجميع الفئات بسبب التكلفة المادية.

من ناحية أخرى، تعتمد بعض الحلول على القراءة الآلية التي، رغم تطورها، لا تزال تفتقد للدقة العاطفية والنحوية للقارئ البشري. لذا، نحتاج إلى مبادرات وطنية ضخمة لتحويل عيون التراث العربي والأدب الحديث إلى مواد مسموعة عالية الجودة ومجانية لذوي الإعاقة البصرية.

تحديات تقننية في اليوم العالمي للعربية

تتميز لغتنا العربية بجماليات الخط وفنونه التي لا تضاهى. لكن، في العالم الرقمي، قد يتحول هذا الجمال إلى عائق أمام ذوي صعوبات القراءة (Dyslexia) أو ضعاف البصر. حيث تستخدم بعض المواقع خطوطا مزخرفة ومعقدة يصعب تمييز حروفها.

في هذا السياق، يجب أن يراعي مصممو الويب استخدام خطوط عربية مقرؤة وواضحة. مع إتاحة خيار تكبير الخط وتغيير التباين اللوني. إن الحفاظ على جمال اللغة لا يجب أن يكون على حساب سهولة قراءتها. فالهدف الأسمى للغة هو توصيل المعنى، وليس فقط استعراض الزخرفة.

لا تقع المسؤولية على اللغويين فقط، بل تقع بشكل أكبر على عاتق المبرمجين ومطوري الويب العرب. إذ يجب الالتزام بمعايير W3C العالمية لإتاحة الويب (WCAG) عند بناء المواقع العربية. هذا يعني كتابة أكواد نظيفة تدعم الاتجاه من اليمين لليسار بشكل صحيح، وتتوافق مع الأدوات المساعدة.

في اليوم العالمي للعربية، نوجه دعوة لكليات الحاسبات والمعاهد التقنية لتدريس الإتاحة الرقمية كمادة أساسية. لأن بناء موقع متاح ليس ميزة إضافية. بل هو واجب أخلاقي وقانوني لضمان حق الجميع في المعرفة. المطور الذي يهمش ذوي الإعاقة هو مطور يساهم في عزلهم اجتماعيا.

طالع: «الصديق قبل الطريق».. طالبان بحرينيان يسجلان دروس اللغة العربية صوتيًا لزميلهما الكفيف

الذكاء الاصطناعي فرصة ذهبية

يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة تاريخية لردم الفجوة الرقمية في اللغة العربية. حيث تتطور تقنيات معالجة اللغات الطبيعية لتقديم خدمات تشكيل آلي دقيق، وترجمة فورية إلى لغة الإشارة، ووصف آلي للصور. مع ذلك، تحتاج هذه النماذج إلى تغذيتها ببيانات عربية ضخمة وصحيحة.

لذلك، يجب على المؤسسات البحثية العربية الاستثمار في تطوير خوارزميات. تفهم خصوصية لغتنا واشتقاقاتها. إن تطويع الذكاء الاصطناعي لخدمة ذوي الإعاقة هو أفضل احتفال يمكن أن نقدمه لغتنا في عصرها الحديث. مستقبل اللغة العربية مرهون بمدى ذكائها الرقمي وشموليتها.

لا يمكن أن تترك قضية الإتاحة للمبادرات الفردية أو النوايا الحسنة. بل يجب أن تتدخل الحكومات والمجامع اللغوية لسن تشريعات تفرض معايير الوصول الشامل. على المواقع الحكومية والخدمية والتعليمية. في الغرب، يعاقب القانون المؤسسات التي لا توفر مواقع إلكترونية متاحة للمكفوفين.

في اليوم العالمي للعربية، نتطلع إلى قرارات تلزم القنوات الفضائية والمنصات الرقمية بتوفير ترجمة إشارية ووصف صوتي. هذا الالتزام هو الذي يحول اللغة من تراث نحفظه في الكتب إلى حياة يعيشها كل مواطن بغض النظر عن قدراته الجسدية.

يجب أن نرفع اليوم شعار «العربية للجميع.. بلا استثناء». فاللغة التي وسعت كتاب الله لفظا وغاية. لن تضيق عن استيعاب احتياجات ذوي الهمم إذا أخلصنا النية والعمل. ليكن احتفالنا هذا العام عمليا. بمراجعة مواقعنا، وحساباتنا، ومحتوانا، وجعلها أبوابا مفتوحة لا جدرانا عازلة.

كل صانع محتوى. وكل مبرمج، وكل معلم لغة عربية، يحمل في عنقه أمانة “الإتاحة”. عندما نكتب “نصا بديلا” لصورة، أو نضيف “ترجمة” لفيديو، نحن لا نقوم بعمل تقني، بل نقوم بعمل إنساني وحضاري. نحن بذلك نمد جسورا من النور لمن يعيشون في الظلام.

في الختام، يظل اليوم العالمي للعربية مناسبة لتجديد العهد مع هويتنا. ولكن بمفهوم أكثر شمولية. إن عظمة اللغة لا تقاس فقط ببلاغتها القديمة، بل بقدرتها على التكيف مع تحديات الحاضر واحتواء جميع أبنائها. باختصار، لنجعل من لغتنا الجميلة وطنا يسع الجميع، ويسمعه الأصم. ويقرأه الكفيف، وينطق به كل قلب ينبض بالعربية.

المقالة السابقة
هيئة حقوق الإنسان توقع مذكرة تعاون لدعم ذوي الإعاقة البصرية بالسعودية