جسور – فاطمة الزهراء بدوي
جون ميلتون الملقب بشاعر النور والتمرد، ولد في التاسع من ديسمبر عام 1608، في لندن، في زمن مضطرب تتقاذفه النزاعات الدينية والسياسية، بين سلطة الكنيسة ومطالب الإصلاح، بين التاج والبرلمان، وبين اليقين والشك.. كان شاعرًا ومفكرًا راديكاليًا، ومثقفًا مشتبكًا مع قضايا عصره، وشاهدًا أعمق على التحولات الفكرية في القرن السابع عشر.
يُعد النقاد جون ميلتون ثاني أعظم كاتب إنجليزي بعد شكسبير، لكن تميزه كان في تقديم ملحمة روحية وفكرية بحجم “الفردوس المفقود”، التي لا تزال إلى اليوم تُقرأ وتُفسَّر بوصفها نصًا يتجاوز الزمن.
جون ميلتون والبداية بين الموسيقى والحرية
نشأ ميلتون في بيئة تجمع بين الثقافة والدين والعمل الصارم. فوالده، الذي طُرد من بيت العائلة لتخليه عن الكاثوليكية، أصبح مقرضًا محترفا (يعمل في تنظيم المعاملات المالية والقروض ويساعد عملاءه في التفاوض مع الدائنين) وهاوي موسيقى، ربى ابنه على حب الفنون والانضباط. التحق جون بمدرسة سانت بول ثم بجامعة كامبريدج، حيث درس اللاهوت الكلاسيكي والعلوم الإنسانية. غير أنه لم ينسجم مع روح المؤسسة، ولكنه اصطدم بأساتذته وانتقد السلوك الجامعي المفرغ من التفكير. فُصل ثم عاد، وكتب شعرًا باللاتينية والإنجليزية والإيطالية، وتخرج دون أن يسلك طريق الكهنوت كما أراد له والده.
انعزال جون ميلتون من أجل الإعداد
ما بين 1632 و1638، انسحب ميلتون من الحياة العامة، وعكف في منزل العائلة الريفي على قراءة أعمال أفلاطون، وهيوميروس، وفيرجيل، والكتاب المقدس، وغاص في تأملات عن الإنسان والخطيئة والخلود. ثم سافر إلى فرنسا وإيطاليا، حيث التقى مفكرين وشعراء بارزين، وتحدث الإيطالية بطلاقة، وكتب قصائد أثارت إعجاب مثقفي فلورنسا.
عاد إلى إنجلترا مع بدايات الحرب الأهلية سنة 1642، وكانت تلك العودة بمثابة نقطة تحول في مسيرته.. لم يعد الشاعر الشاب الذي يسعى لاكتشاف صوته، بل مفكرًا ناضجًا يحمل رؤية واضحة للعالم. خلال سنوات عزلته وتأمله، تشكلت ملامح مشروعه الفكري، وامتزج الشعر بالتأمل الديني والسياسي.. أصبح أكثر التزامًا بقضايا الحرية الفردية، وناقدًا جريئًا للاستبداد الديني والسياسي. آمن بأن الكلمة قادرة على زعزعة العروش، وكرس قلمه للدفاع عن العدالة والضمير الحي. تخلى عن الحياد الأدبي، وانخرط في خضم الجدل العام ككاتب نثري لا يقل شأنًا عن شعره. وبفضل هذا النضج، انطلقت أبرز مراحله الإبداعية، التي ستخلد اسمه كأحد أعمدة الأدب الإنجليزي.
جون ميلتون المثقف المقاوم
مع اشتعال الحرب الأهلية الإنجليزية، لم يقف ميلتون على الحياد. ولكنه كتب منشورات نارية طالب فيها بحرية الرأي، وأدان الرقابة، ودافع عن حق الطلاق، وهدم سلطة الكنيسة الرسمية، وندد بالملكية المطلقة.. وبعد إعدام الملك تشارلز الأول عام 1649، عمل ميلتون موظفًا رسميًا في الكومنولث الإنجليزي، وتولى المراسلات الأجنبية، وكتب دفاعًا عن الجمهورية أمام أوروبا.
في هذه الفترة، فقد جون ميلتون بصره كليًا، بعد سنوات من المعاناة مع ضعف البصر المتزايد. وكانت بداية لتحول عميق في تجربته الإبداعية.. بدلًا من الاستسلام، لجأ إلى عين البصيرة، واستحضر قوته الروحية والعقلية ليواصل الكتابة بشغف أشد، فاستعان بمساعدين يقرأون له الكتب ويكتبون ما يمليه، لكنه ظل قائدًا للعمل، يتحكم في بنائه وعمقه. أصبحت الظلمة التي غطت عينيه دافعًا لمزيد من التأمل في النور الإلهي والمعنى الكوني. ومن بين تلك الظلمة، بدأ ميلتون في صياغة أعظم أعماله: “الفردوس المفقود”، ملحمة الخلق والسقوط والخلاص. فليست مجرد قصيدة، بل شهادة خالدة على انتصار الروح على الجسد، والإبداع على المحنة.
نُشرت Paradise Lost عام 1667، وهي قصيدة ملحمية تجاوزت عشرة آلاف بيت، تناولت قصة سقوط إبليس وآدم وحواء، في أسلوب شعري حر مهيب، يستلهم اللاهوت المسيحي ويُجادله. فالشيطان في النص ليس مجرد عدو، ولكن تمرد واعٍ، يمثل الكرامة والرفض والحرية، ما دفع النقاد الرومانسيين في القرن التاسع عشر مثل بليك وشيللي لاعتباره البطل الحقيقي في القصيدة.
لكن “الفردوس المفقود” كانت أكثر من قصة دينية.. إنها تأمل هائل في السلطة والخيانة والاختيار الحر، في الخير والشر، في عزلة الإنسان الحديثة، في محاولته الفاشلة لاستعادة النقاء الأول.
الصعود والانكسار ثم العودة
في البداية، لم تلقَ القصيدة احتفاءً شعبيًا، لكنها وجدت في نخبة من المفكرين من يدافع عنها. نشر الشاعر أندرو مارفيل مراجعة مشيدة بها، واعتبرها إنجازًا ملحميًا، ثم حولها جون درايدن إلى أوبرا شعرية. خلال القرن الثامن عشر، ازدادت شهرتها، وترجمت إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية، وكتب عنها فولتير بإعجاب.
لكن بحلول القرن العشرين، قاد تي. إس. إليوت نقدًا شرسًا ضد ميلتون، متهمًا إياه بالجمود والبعد عن نبض الحياة. رأى أن شعره ملتوٍ، عسير الهضم، وغير ملهم للكتاب الجدد. ورغم ذلك، صمد ميلتون أمام النقد، كرمز جمالي، وكشاهد على أزمنة كانت الحقيقة فيها تهمة، والحرية صراعًا يوميًا.
ميراث حيّ من المعنى والمفارقة
امتدت مساهمة ميلتون الأدبية إلى قضايا بنيوية تخص الضمير، والسلطة، والعدالة. ففكرة الزواج عنده، وإن بدت أحيانًا هرمية، جاءت مشروطة بالتوافق، لا الخضوع. والدين في كتاباته ليس طقوسًا بل حرية ضمير. أما الطلاق، فكان يراه حقًا إنسانيًا لا تُقيده المؤسسة.
من هنا، تُقرأ أعماله اليوم بوصفها سجلًا فريدًا لمرحلة تشكُّل العقل الحديث، ومختبرًا لغويًا وفكريًا لصراع الإنسان مع ذاته ومجتمعه وخالقه.
ما يبقى من جون ميلتون
رحل جون ميلتون في 8 نوفمبر 1674، لكن حضوره الأدبي والفكري لم ينتهِ. فقصائده تُدرَّس، ومقالاته تُناقش، و”الفردوس المفقود” تُعاد قراءتها بعد كل حرب وسقوط سياسي.. ترك خلفه وعيًا مُركّبًا ومفتوحًا، يتجاوز عصره إلى أزمنة أخرى، ويُذكرنا بأن الكلمة يمكن أن تصبح نورًا في وجه العمى، وأن الشعر قد يكون أداة مقاومة بقدر ما هو أداة تأمل.