في عالم قد يرى الإعاقة بعين التعاطف أو الشفقة، يأتي المصور الصحفي المصري إبراهيم قنديل، حاملا عدسته لا لتوثيق الألم، بل كمرآة تعكس قوة الإرادة والشغف الذي لا ينضب. يختار قنديل قصص ذوي الإعاقة ليحولها إلى لوحات بصرية تحكي عن الإنجاز والصمود والتحدي، متجاوزا بذلك النظرة التقليدية ومؤكدا على أن الإعاقة ليست نهاية المطاف، بل هي بداية مسار جديد من الكفاح والإصرار.
لفت انتباه قنديل، وهو يوثق محاولات ذوي الإعاقة التي لا تنتهي، مشهد مؤثر جعله يقرر تكريس جزء من عمله لهذه الفئة، ويقول لـ «جسور»: «شاهدت شخصا فقد يده، ولكنه يعمل بكل جد، بينما كان يسير بجواره شخص صحيح الجسد يتسول».. هذا التناقض القوي بين من يعمل رغم إعاقته ومن يستغل صحته، كان الشرارة التي أشعلت شغف قنديل بتصوير هؤلاء الأبطال، ليس من باب الشفقة، بل من منطلق الإيمان بقوتهم.

نظرة من القلب قبل الكاميرا
يؤمن قنديل بأن اللحظة الأهم في عمله ليست عند التقاط الصورة، بل قبلها. قبل أن يمسك الكاميرا، يبحث في عيون أصحاب القصص عن شيء آخر غير الإعاقة: «ما يشدني هو الحماس والشغف». يرى أن هذه المشاعر هي مفتاح الوصول إلى عالمهم الداخلي، وهي التي تحولهم من مجرد أشخاص إلى مصدر إلهام.
يؤكد قنديل أن توثيق قصصهم قد يكون «شبه مستحيل» في بعض الأحيان، بسبب خوفه من أن تكون صورته وسيلة لاستغلال ظروفهم أو إثارة الشفقة. لذا يحرص على بناء جسر من الثقة معهم، لإظهارهم على طبيعتهم، مرتاحين، وقادرين على إيصال مشاعرهم الحقيقية من خلال الصورة. يتجنب قنديل أي لمسة درامية زائفة، ويركز على اللحظات الحقيقية التي تعكس كفاحهم اليومي وشغفهم بالحياة.

رسائل لا تنسى
في رحلة قنديل، التقط صورا علقت في ذهنه وتركته يرى العالم بعيون مختلفة، ويصف أصعب صورة التقطها: «كان أحدهم يمسح عرقه بنصف يده». هذه اللحظة العابرة، بكل ما فيها من جهد وتعب، كانت بالنسبة له أقوى من ألف كلمة، فهي تلخص رسالته الأساسية: «أن الشغف والمحاولات لا تتوقف ما دمنا أحياء، لأن السعي فريضة علينا من الله». هذه الرسالة الإنسانية العميقة هي ما يسعى قنديل لإيصاله من خلال عمله، مؤكدا أن الإعاقة الجسدية ليست حاجزا أمام الطموح والإنجاز.

قنديل لا يكتفي بالتوثيق، بل يسعى لتغيير النظرة المجتمعية إذ يرى أن صوره تؤثر بشكل مباشر، وأنها حسب ما قال لـ «جسور»: «تغير نظرة الناس، وعلى الأقل تقدر مجهودهم». إنه يؤمن بأن الصورة لها القدرة على أن تكون قوة إيجابية، وأنها يمكن أن تكسر حواجز الفهم الخاطئ وتفتح أبوابا للتقدير والاحترام.
فهد وفكرة البطل المؤجل
من بين القصص التي وثقها قنديل، قصة الشاب فهد عبد الباسط فهيم، الذي فقد قدميه ويده اليسرى في حادث قطار وهو في السادسة من عمره، بدلا من الاستسلام، قرر فهد أن يفتح ورشة ميكانيكي صغيرة لا تتعدى ال 6 أمتار، فيما يظهر قنديل فهد وهو يعمل بيده الوحيدة، ليثبت أن الإعاقة ليست عائقا أمام السعي للرزق.

هذه الصورة ليست مجرد توثيق، بل هي إلهام حي، يروي قصة شاب قرر أن يتحدى الظروف ليصنع لنفسه ولأسرته مستقبلا أفضل.
في قصة أخرى، يوثق قنديل حكاية سباح مبتور الذراع، الذي يرى الإعاقة الحقيقية في «أن أصبح عاجزا بعيدا عن الحياة». يقول السباح: «وعدت أبي أنني بطل مؤجل، وينتظر موعد ظهوره». هذه العبارة القوية، التي تحمل في طياتها الأمل والإصرار، هي ما يسعى قنديل لإيصاله من خلال عمله.

ولم تقتصر عدسة إبراهيم على توثيق قصص الكفاح اليومي في الشارع والورش، بل امتدت لتلتقط صورا لأبطال آخرين سطروا أسماءهم في المحافل الدولية، فقد وثق لحظات التحدي والإنجاز لأبطال مصر في الألعاب البارالمبية وقصص فرحتهم بإنجازاتهم حين يعودون لأرض الوطن وسط استقبال الجمهور.. صور تحكي عن رياضيين فقدوا أجزاء من أجسادهم، لكنهم لم يفقدوا شغفهم بالمنافسة والانتصار، إنها شهادة حية على أن القوة الحقيقية تنبع من العزيمة، وأن ذوي الإعاقة ليسوا مجرد ضحايا للظروف، بل هم أبطال يرفعون علم بلادهم عاليا، متحدين كل الصعاب.

عبر هذه النماذج، يسعى قنديل لإيصال رسالته الأخيرة: «أنا بحاول أظهر قوة الشخص وشغفه مش إعاقته».
إنه يركز على الابتسامة.. على النظرة.. على الجهد المبذول، ليقدم صورا تنضح بالقوة والإلهام، وتلهم الآخرين ليؤمنوا بأن الشغف الحقيقي لا يولد من الكمال، بل من قوة التحدي والإرادة التي لا تلين.

لا يكتفي قنديل بتوثيق اللحظة، بل ينير الطريق في رحلة تشكيل وعي حقيقي، حيث يرى في ذوي الإعاقة قامات شامخة من الإرادة والعزيمة، إنها دعوة مفتوحة للجميع لنتوقف عن النظرة المعتادة، ولنرى ما وراء الجسد، لنكتشف شغفا لا يمحوه الزمن، وقوة لا تهزمها الظروف، فعدسة قنديل ليست مجرد أداة للتصوير، بل هي عين ترى ما لا يراه الآخرون، وتكشف أن الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الروح لا الجسد.