يوافق اليوم الذكرى السابعة عشرة لواحد من أكثر الأيام دموية في تاريخ غزة. في صباح السابع والعشرين من ديسمبر 2008، تغير وجه القطاع للأبد. حيث شنت إسرائيل عدوانا مباغتا عرف باسم عملية الرصاص المصبوب. في حين لم يكن الهدف القتل فقط، بل إحداث إعاقات مستدامة ترهق المجتمع الغزي لسنوات.
ولا ينظر الغزيون لهذا التاريخ كيوم للشهداء فحسب. بل يعتبرونه البداية الفعلية لظاهرة الإعاقات الجماعية في عصرنا الحديث. وفي الواقع، تعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدام قوة نارية مفرطة في مناطق مكتظة. وعن ذلك نتج تحويل آلاف الأجساد الصحيحة إلى أجساد معاقة في لحظات. كانت هذه الاستراتيجية تهدف لكسر الروح المعنوية للحاضنة الشعبية للمقاومة.
عملية الرصاص المصبوب
شهدت هذه الحرب استخداما واسعا لأسلحة محرمة دوليا. وذلك فق تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش. حيث أمطرت إسرائيل غزة بالفسفور الأبيض. وهذه المادة تسبب حروقا عميقة تصل إلى العظام ولا تشفى بسهولة. وذلك أدى إلى تشوهات دائمة وتيبس في مفاصل مئات المصابين. بينما تحول الناجون من القصف إلى ضحايا لإعاقات حركية وجسدية مزمنة.
ولم يتوقف الأمر عند الفسفور، بل ظهرت أسلحة فتاكة جديدة. فحسب شهادات الطبيب النرويجي مادس جيلبرت الذي عمل في غزة حينها. كما تم استخدام متفجرات المعدن الخامل الكثيف المعروفة بـDIME. تحدث هذه القذائف بترا نظيفا للأطراف السفلية دون شظايا تقليدية. وهنا بدأ مصطلح جيل البتر يظهر في القاموس الطبي والاجتماعي الفلسطيني.
استمر العدوان لمدة 22 يوما متواصلة من القصف العنيف. واستنادا إلى إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية، خلف العدوان أكثر من 5 آلاف جريح. عانى نسبة كبيرة منهم من إعاقات دائمة لا يرجى شفاؤها. بينما شملت الإصابات بتر الأطراف، وفقدان البصر، والشلل الرباعي والنصفي. شكل هؤلاء الضحايا ضغطا هائلا غير مسبوق على القطاع الصحي المنهك.
استهداف الأطفال.. إعاقة المستقبل
كانت فئة الأطفال هي الأكثر تضررا في عملية الرصاص المصبوب. حيث تزامن القصف الأول مع خروج طلاب المدارس للفترة المسائية. وذلك أدى إلى بتر أطراف مئات الأطفال وهم يحملون حقائبهم المدرسية. يعيش هؤلاء الأطفال اليوم كشباب، لكنهم يحملون أجسادا صناعية. تعد هذه الجريمة اغتيالا ممنهجا لمستقبل جيل كامل قبل أن يبدأ.
لم تكن الإصابة هي المشكلة الوحيدة، بل الحصار كان القاتل الثاني. بسبب إغلاق المعابر، إذ منعت إسرائيل دخول الأطراف الصناعية وقطع غيارها. كما منعت سفر الحالات الحرجة لتلقي العلاج والتأهيل في الخارج. وهذا المنع تسبب في تحويل إصابات بسيطة إلى إعاقات دائمة ومركبة. بذلك، شارك الحصار في صناعة الإعاقة بنفس قدر مشاركة الصواريخ.
طالع: وسط دمار المراكز الطبية.. 170 ألف من ذوي الإعاقة بغزة بلا تأهيل ولا أجهزة مساعدة
ووثق المجتمع الدولي هذه الجرائم في تقرير القاضي ريتشارد غولدستون الشهير. والذي أكد في التقرير الأممي أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب باستهداف المدنيين عمدا. كما أشار بوضوح إلى الضرر الجسدي الهائل الذي لحق بالبنية البشرية في غزة. ورغم ذلك، لم تتم محاسبة أي مسؤول إسرائيلي عن هذه الفظائع. شجع هذا الصمت الاحتلال على تكرار السيناريو في حروب لاحقة.

تدمير مراكز التأهيل عبر عملية الرصاص المصبوب
لم يسلم حتى المكان الذي يتعالج فيه المعاقون من القصف. فخلال العدوان، استهدفت الطائرات مراكز صحية ومستشفيات ميدانية. كما تضرر مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي بشكل كبير خلال جولات الصراع المتكررة. وكان الهدف هو حرمان المصاب من أي فرصة لاستعادة حياته الطبيعية. تعتبر هذه الممارسات انتهاكا صارخا لاتفاقية جنيف الرابعة.
يواجه ضحايا عملية الرصاص المصبوب حربا نفسية صامتة ومستمرة. حيث يعانون من صدمة الحرب بالتزامن مع فقدان أجزاء من أجسادهم. إذ يجد المصاب نفسه عاجزا عن الحركة ومحاصرا بذكريات القصف المرعبة. ويفتقر القطاع لبرامج الدعم النفسي الكافية لاستيعاب هذه الأعداد الهائلة. هذا الألم النفسي يكون أحيانا أقسى من الألم الجسدي.
وسط هذا الظلام، حاول الغزيون صناعة الأمل بأيديهم. تم تطوير مركز الأطراف الصناعية والشلل في غزة بجهود محلية ودولية. حيث كان يحاول المركز توفير أطراف بديلة للمصابين لدمجهم في المجتمع. لكن نقص المواد الخام بسبب الحصار يظل العائق الأكبر أمامهم. رغم ذلك، نجح المركز في مساعدة المئات على المشي مجددا.
بطولات ذوي الهمم
لم يستسلم جيل البتر لليأس، بل سطروا قصص نجاح ملهمة. شارك العديد منهم في بطولات رياضية وحققوا ميداليات دولية. كما أكمل آخرون تعليمهم الجامعي وتزوجوا وأسسوا أسرا سعيدة. تثبت هذه النماذج أن الإرادة الفلسطينية أقوى من الفسفور والرصاص. هم شهود أحياء على الجريمة، وشهود أيضا على حب الحياة. وفق منظمة العفو الدولية.
بعد 17 عاما، لا تزال أجساد الضحايا وثيقة إدانة حية. حيث كل طرف مبتور في شوارع غزة يروي حكاية يوم 27 ديسمبر. ويمكن القول إنه تذكرنا الكراسي المتحركة المنتشرة في القطاع بفداحة ما حدث. بينما لا يمكن لأي رواية إسرائيلية أن تمحو الحقيقة المحفورة على الأجساد. لهذا سيظل هؤلاء المعاقون ذاكرة الأمة التي لا تنسى.
وللأسف، لم تكن تلك الحرب هي الأخيرة في مسلسل صناعة الإعاقة. حيث تكرر المشهد في 2012، 2014، 2021، وصولا لحرب الإبادة الأخيرة. ولكن يظل يوم 27 ديسمبر 2008 هو البداية المؤسسة لهذا النهج الوحشي. واليوم، تضاعفت أعداد المعاقين عشرات المرات عما كانت عليه. حيث أصبحت غزة أكبر تجمع لذوي الإعاقة الناجمة عن الحروب في العالم.
المسؤولية الدولية والأخلاقية
يتحمل العالم مسؤولية أخلاقية تجاه هؤلاء الضحايا المنسيين. لهذا يجب توفير الدعم المالي والتقني لتأهيلهم. وكذلك دمجهم بشكل كامل. كما يجب الضغط لرفع الحصار والسماح بدخول المعدات الطبية المتطورة. بينما الأهم من ذلك هو محاكمة مجرمي الحرب الذين أصدروا الأوامر. فبدون العدالة، سوف ستستمر آلة الحرب في حصد المزيد من الأطراف.
في الختام، نستذكر اليوم ألم عملية الرصاص المصبوب ليس للبكاء فقط. بل لتخليد صمود الذين فقدوا أطرافهم ولم يفقدوا كرامتهم. لقد أراد الاحتلال كسرهم، فتحولوا إلى أيقونات للصبر والتحدي. أخيرا، سيظل جيل البتر في غزة وساما على صدر الإنسانية المعذبة.


.png)


















































