فتيات كهف حلوان.. مأساة إنسانية في مرآة الإعاقة النفسية 

فتيات كهف حلوان.. مأساة إنسانية في مرآة الإعاقة النفسية 

المحرر: محمود الغول - مصر
فتيات كهف حلوان

شهدت منطقة حلوان جنوب العاصمة المصرية القاهرة، ما يصح تسميته مأساة إنسانية صادمة، اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي، لتكشف عن قصة شقيقتين مطلقتين وطفلة صغيرة، لا تتجاوز التاسعة من عمرها.

ثلاثتهن يعشن في عزلة تامة داخل شقة أغلقت أبوابها لأكثر من عام ونصف، حيث تحولت الشقة إلى كهف مظلم، يرتع فيه الخوف واليأس، بينما انهكت الفتيات من مرض نفسي جعلهن هياكل بشرية، وكانت الطفلة الصغيرة ضحية صامتة، حرمت من المدرسة واللعب، وغدت سجينة الخوف والحرمان.

بدأت القصة عندما نشرت الأخت الصغرى غير المعزولة إ. ع. أ منشورا على مواقع التواصل الاجتماعي، تناشد الجميع إنقاذ شقيقتيها والطفلة.

وأثار المنشور موجة عارمة من التعاطف، مما دفع وزارة التضامن الاجتماعي إلى الاستجابة الفورية، وكانت روايات الجيران والصور المتداولة أشبه بالكابوس، فقد تحولت الشقة إلى مكان مظلم يملؤه الغبار والتراب والروائح الكريهة، بينما بدت وجوه الفتيات شاحبة وأجسادهن هزيلة كالهياكل العظمية.

يمثل هذا التدهور الجسدي انعكاسا مباشرا للتأثيرات الجسدية للمرض النفسي والعزلة الشديدة، والتي تسبب الخمول وفقدان الشهية وتدهور الصحة العامة.

فريق التدخل السريع المركزي لوزارة التضامن
فريق التدخل السريع المركزي لوزارة التضامن

 

جهود الإنقاذ الرسمية والشعبية
كان للجيران دور ملحوظ في محاولات المساعدة، حيث لاحظوا اختفاء الأسرة، وكانوا يسمعون أصواتهن من داخل الشقة، فقرروا إلقاء الطعام لهن من نافذة صغيرة إلا أن محاولاتهم لكسر باب الشقة باءت بالفشل، مما دفعهم لإبلاغ السلطات.

وبالفعل استجابت وزارة التضامن الاجتماعي على الفور، ووجهت فريق التدخل السريع المركزي إلى موقع الحالة إلا أن التحدي الأكبر الذي واجه الفريق كان رفض الفتيات محاولات التواصل أو فتح الباب، مما يعكس قوة الحاجز النفسي الذي يمنع التدخل من العالم الخارجي.

كشفت الأخت الصغرى أن الشقيقتين تعيشان في شقة والدهما بصحبة طفلة إحداهن بعد طلاقهما منذ عامين، وأفادت أن الشقيقتين تعانيان من اضطرابات نفسية تتمثل في شعورهن بالخوف من التعامل مع الآخرين، كما أكدت روايات الجيران أن الأسرة كانت ميسورة الحال ولديها ستة أشقاء وشقيقات آخرين، مما يدحض أي افتراضات تربط هذه الحالة بالفقر.

ويعد السبب الرئيسي للحالة هو الصدمة النفسية الناتجة عن تجربة الطلاق، والتي تفاقمت بفعل العزلة الطويلة.

منزل فتيات كهف حلون
منزل فتيات كهف حلون

 

تحليل متعمق للواقعة
مصطلح الكهف الذي أطلق على شقة الفتيات ليس مجرد وصف إعلامي للشو والبحث عن الترند، بل هو تجسيد لحالة نفسية عميقة من الانكفاء، حيث أصبح العالم الخارجي مصدرا للتهديد، وتحولت الشقة إلى ملاذ قسري وسجن في آن واحد.

سلسلة الأحداث تشير إلى مسار مرضي واضح يتمثل في صدمة نفسية (الطلاق) أدت إلى اضطرابات نفسية (الخوف والقلق)ثم إلى عزلة اجتماعية طوعية في البداية، تحولت تدريجيا إلى حالة مرضية قسرية (إعاقة نفسية)، مما أدى في النهاية إلى تدهور جسدي ونفسي كامل.

هذا التسلسل يكشف عن مدى خطورة إهمال الصحة النفسية في مراحلها الأولية.

كما أن تصرفات الجيران تكشف عن تناقض اجتماعي عميق، فقد قدموا دعما ماديا بسيطا (إلقاء الطعام)، لكنهم لم يتمكنوا من كسر جدار العزلة النفسية، ويشير هذا إلى وجود عجز مجتمعي أو وصمة عار تمنع التعامل الفعال مع الأمراض النفسية الشديدة، حيث يجد الناس صعوبة في فهم أو مساعدة من يعاني من اضطراب سلوكي أو ذهاني.

رفض الفتيات التعاون مع فريق التدخل ليس دليلا على عدم رغبتهن في الشفاء، بل هو عرض أساسي من أعراض المرض النفسي؛ فالخوف من الآخرين هو جوهر المرض، مما يجعل قبول المساعدة من الآخرين أمرا مستحيلا دون خطة علاجية متخصصة تبدأ بفهم هذا العرض.

فتيات كهف حلوان
فتيات كهف حلوان- صور متداولة

محاولة لفهم الإعاقة النفسية ومتلازمة العزلة

تعرف الإعاقة النفسية بأنها عجز مستمر أو مؤقت في الشخصية أو السلوك، يؤثر سلبا على قدرة الفرد على التوافق مع نفسه ومع الآخرين، وتختلف هذه الإعاقة عن الإعاقة الذهنية التي ترتبط بانخفاض مستوى الأداء الذهني.

يمكن تصنيف حالة فتيات حلوان ضمن إطار متلازمة العزلة الاجتماعية، وهي حالة يتجنب فيها الفرد التفاعل مع الآخرين بشكل مستمر.

وتؤكد المصادر المتخصصة في هذا الشأن أن العزلة قد تكون طوعية في البداية، قبل أن تتحول إلى حالة مرضية يصعب الخروج منها وتتطابق الأعراض الموصوفة في الحالة مع الأعراض الشائعة للعزلة الشديدة، مثل الخمول وفقدان الشهية جسديا، والقلق والاكتئاب نفسيا، والخوف من التفاعلات الاجتماعية سلوكيا.

وتكمن الخطورة في الدورة المفرغة للمرض، حيث تؤدي العزلة إلى تفاقم القلق والاكتئاب، مما يزيد من صعوبة التواصل الاجتماعي، فيتعمق الانعزال بشكل يصعب كسره.

إضافة إلى متلازمة العزلة، تعد فرضية الذهان المشترك (Folie à deux) تحليلا سريريا قويا ومحتملا للحالة، ويعرف الذهان المشترك بأنه متلازمة نادرة يتم فيها نقل أوهام من شخص مصاب بالذهان (الأساسي) إلى شخص آخر أو أكثر (الثانوي)، في إطار علاقة قريبة ومعزولة. وتتطابق المعايير التشخيصية لهذا الاضطراب بشكل ملحوظ مع حالة فتيات حلوان.

عاشت الشقيقتان والطفلة في عزلة تامة لأكثر  من عام ونصف، بعيدا عن المجتمع الخارجي، ومن المرجح أن تكون الشقيقتان قد دعمتا بعضهما البعض في وهم الخوف من العالم الخارجي، وتجنب التفاعلات الاجتماعية، مما يفسر رفضهما فتح الباب لفريق التدخل، بالإضافة إلى وجود دليل على أن الأوهام تم اكتسابها من شخص آخر مصاب بالاضطراب الذهاني، وفي هذه الحالة من الممكن أن تكون إحدى الشقيقتين هي الحالة الأساسية، وأن تكون أوهامها قد انتقلت إلى شقيقتها بل وربما أثرت على الطفلة الصغيرة.

طفلة فتيات كهف حلون
طفلة فتيات كهف حلون

الطفلة في هذه الحالة ليست مجرد شاهدة، بل هى ضحية مباشرة لهذه الحالة، فقد حرمت من التفاعلات الاجتماعية والتعليم واللعب، مما يعرضها لخطر تأخر النمو المعرفي والاجتماعي، وأصبحت جزءا من هذا النظام الوهمي المشترك، مما يجعل إنقاذها أولوية قصوى.

 قصص من الكهوف المعزولة
قصة فتيات كهف حلوان رغم خصوصيتها ليست ظاهرة فريدة من نوعها، بل هي جزء من ظاهرة عالمية معروفة في علم النفس.

وقد تكررت حالات العزلة الشديدة في التاريخ البشري، سواء كانت بسبب الإهمال أو المرض.

ويمكن مقارنة حالة فتيات حلوان بحالتي آنا وإيزابيل الشهيرتين حيث عاشت آنا في عزلة قسرية في غرفة مظلمة حتى سن السادسة، بينما عاشت إيزابيل مع والدتها الصماء والبكماء في عزلة حتى سن السادسة والنصف.

تتشابه الحالات الثلاث في عدة جوانب ومنها أن  الضحايا عاشوا في عزلة تامة، بعيدا عن أي تفاعل اجتماعي سليم، كما عانت آنا من سوء التغذية وضمور العضلات، بينما أصيبت إيزابيل بالكساح، في حين تحولت أجساد فتيات حلوان إلى هياكل عظمية، وأظهرت جميع الحالات تأخرا حادا في النمو، وفقدانا للمهارات اللغوية والاجتماعية.

ولكن، تكمن أوجه الاختلاف في السبب الرئيسي للعزلة، فبينما كانت عزلة آنا وإيزابيل ناتجة عن الإهمال الجسدي والاجتماعي منذ الطفولة، كانت عزلة فتيات حلوان ناتجة عن صدمة نفسية حادة أدت إلى إصابة نفسية عميقة.

ومع ذلك تقدم قصة إيزابيل بارقة أمل مهمة فعلى الرغم من عزلتها المماثلة لحالة آنا، إلا أنها تمكنت من التعافي بشكل شبه كامل بعد تدخل مكثف وسريع، حيث تعلمت الكلام وأظهرت قدرات ذهنية طبيعية في غضون عامين، ويوضح هذا أن التدخل المبكر والمنظم يمكن أن يفتح نافذة حرجة للتعافي، وهو ما يجب أن يكون أولوية قصوى لإنقاذ الطفلة الصغيرة في حلوان.

المقالة السابقة
أنيسة عبد الله.. تفتتح  أول مركز سمعي لذوي الإعاقة بالصومال
المقالة التالية
ذوو الإعاقة وأسرهم يعرضون تجارب الدمج فى”نحن الاحتواء” بالشارقة 

وسوم

أصحاب الهمم (45) أمثال الحويلة (394) إعلان عمان برلين (396) اتفاقية الإعاقة (544) الإعاقة (112) الاستدامة (950) التحالف الدولي للإعاقة (925) التشريعات الوطنية (745) التعاون العربي (422) التعليم (61) التعليم الدامج (58) التمكين الاقتصادي (68) التنمية الاجتماعية (946) التنمية المستدامة. (62) التوظيف (48) التوظيف الدامج (702) الدمج الاجتماعي (620) الدمج المجتمعي (134) الذكاء الاصطناعي (71) العدالة الاجتماعية (57) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (424) الكويت (69) المجتمع المدني (935) الولايات المتحدة (53) تكافؤ الفرص (931) تمكين (68) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (507) حقوق الإنسان (62) حقوق ذوي الإعاقة (78) دليل الكويت للإعاقة 2025 (370) ذوو الإعاقة (131) ذوو الاحتياجات الخاصة. (904) ذوي الإعاقة (466) ذوي الهمم (46) ريادة الأعمال (383) سياسات الدمج (918) شركاء لتوظيفهم (378) قمة الدوحة 2025 (565) كود البناء (372) لغة الإشارة (51) مؤتمر الأمم المتحدة (333) مجتمع شامل (925) مدرب لغة الإشارة (582) مصر (53) منظمة الصحة العالمية (602)