من خانيونس، تتسلل مأساة جديدة تضاف إلى سجل الجراح الغزية، حيث مأساة طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، كان يلهو ببراءة، يملأ المكان ضجيجا وحياة، قبل أن تتحول ضحكاته إلى صرخات ألم، وحركته إلى شلل كامل يقيده إلى الفراش.
هذه قصة عمار أبو سعيد، الطفل الذي أصابته رصاصة طائرة استطلاع كوادكابتر فغيرت مسار حياته بشكل مأساوي لا يمكن للكلمات وصفه.
كان عمار، البالغ من العمر عشر سنوات، يقضي يومه كأي طفل آخر في المخيم، يلعب مع أصدقائه، ثم عاد إلى خيمته ليستريح قليلا وقت الظهيرة، لم يكن يدري أن رصاصة غادرة ستخترق جدار الخيمة الهش وتستقر في رقبته، لتصيب الفقرة الثالثة والرابعة من عموده الفقري إصابة بالغة.

نزف عمار ما يقارب نصف ساعة قبل أن تصل سيارة الإسعاف، التي لم تجد سوى بعض «الأكمول» لتخفيف أوجاعه في نقطة ميدانية بسيطة، لكن بعد ساعة واحدة فقط، فوجئ الأطباء بأن الطفل لم يعد قادرا على تحريك أطرافه.
تم نقله على الفور إلى مستشفى ناصر، حيث خضع لصورة مقطعية (CT) عادية، لكن غياب جهاز الرنين المغناطيسي في القطاع حال دون معرفة حجم الإصابة بدقة، الأطباء اكتفوا بالتأكيد أن الرصاصة مستقرة بين الفقرتين، وأن التدخل الجراحي ضروري لإنقاذ حياته.
شهادة الأخ: «ضل يبكي ويقول بدي أجلس»
متحدثا ل«جسور»، يصف مصعب أبو سعيد، شقيق عمار، اللحظات الأولى من الحادثة قائلا: «إحنا أصلا من غزة، ونازحين بخانيونس. كان عمار قاعد في الخيمة، فجأة اخترقت رصاصة الخيمة واستقرت بين فقراته. ما عاد يقدر يتحرك. ظل ينزف نص ساعة لحد ما إجا الإسعاف. الأطباء قالوا محتاج عملية عاجلة، بس محدش قادر يعملها بالقطاع بسبب الظروف الصعبة».
ويضيف بصوت متهدج وواهن: «الأطباء قالوا في أمل كبير إن شاء الله بعد العملية، لكن المشكلة إنه كل يوم يبكي ويقول: بدي أجلس، بدي أحرك حالي. بنضل نحاول نهديه بس ما منعرف شو نقوله. منظر الدموع على خدوده بيوجع قلوبنا».
دموع الأم وصرخة استغاثة
الأم المكلومة، التي تقضي معظم وقتها بجانب فراشه، لا تفارقها الدموع، تقول ل«جسور» وهي تحتضن يدي طفلها العاجز: «لما أنطلع عليه وهو عاجز، قلبي بيتقطع. ابني اللي كان يركض ويلعب قدامي، اليوم مش قادر حتى يقعد. كل شوية يقولي: يا ماما، امتى أمشي؟ يا ماما، بدي أقعد. امبارح بس طلب مني أقوله: حمميني يا ماما. وأنا مش قادرة أعملله حاجة».

وتتابع بصوت مبحوح: «نفسي أشوفه يرجع زي الأول، يلعب ويضحك ويجري. نفسي يشفى ويشوف حياة طبيعية. الأطباء هون عاجزين، بيحكوا العملية خطيرة ولازم تنعمل برا. ابني بيتألم كل لحظة، حرارة ما بتنزل، وتقرحات بتزيد. مش قادرة أشوفه يذوب قدامي وما أعمل إشي».
عجز طبي وأمل مفقود داخل غزة
الأطباء في غزة أكدوا أن حالة عمار دقيقة للغاية، وأن أي خطأ في التعامل معها قد يفقده حياته نهائيا. لكنهم في الوقت نفسه أجمعوا أن الأمل قائم إذا ما أجريت العملية في مركز طبي مجهز خارج القطاع.
غير أن الحصار ونقص المعدات وغياب الإمكانيات، تجعل الأمر شبه مستحيل.. عمار اليوم يعاني من شلل رباعي كامل، حرارة مرتفعة لا تنخفض، تقرحات جلدية مؤلمة، وعجز تام عن الحركة أو الاعتماد على نفسه.
حياة الأسرة تحولت لجحيم
لم تتغير حياة عمار وحده فقط، بل انقلبت حياة الأسرة بأكملها رأسا على عقب.. جحيم نفسيوإحساس بالعجز. الأسرة عاجزة عن تلبية احتياجاته الطبية المعقدة، الأم غارقة في دموعها ودعائها، والأشقاء يعيشون صدمة مستمرة.
يقول شقيقه مصعب ل«جسور»: «حياتنا كلها اتغيرت. ما في بيت إلا وصار مليان حزن ودعاء. ما بنعرف ننام من التفكير فيه. كل يوم بنشوف دموعه وبتوجعنا أكتر. عمار مش طفل عادي.. كان دايما هو البهجة تبعت البيت».

الأطباء: إخلاء عاجل أو الموت
التقارير الطبية تحذر من أن استمرار الوضع كما هو قد يؤدي إلى مضاعفات قاتلة: شلل دائم، التهابات خطيرة، أو حتى توقف القلب والتنفس.. الحل الوحيد هو إخلاء طبي عاجل إلى الخارج لإجراء العملية الجراحية الدقيقة التي يمكن أن تنقذ حياته وتعيد له بعض الأمل بالحركة.
عمار اليوم يقبع على سرير صغير، لا يقوى على تحريك يديه أو قدميه كل ما يستطيع فعله هو النظر إلى والدته بعينين دامعتين، يطلب منها أن تساعده على الجلوس أو أن تعيده إلى حياته السابقة.
لكن ما تستطيع الأم تقديمه لا يتجاوز دموعا ودعوات، وصوتا مبحوحا يردد: «يا رب اشفيه.. يا رب رجعه زي أول».
إنها صرخة من غزة المحاصرة، صرخة أم ترى ابنها يتلاشى أمامها، وصرخة أخ يحاول عبثا أن يطمئن شقيقه الصغير، صرخة تقول للعالم: أنقذوا عمار قبل فوات الأوان.