يُعدّ مرض العظم الزجاجي، أو ما يُعرف طبيًا باسم “Osteogenesis Imperfecta”، أحد أبرز الأسباب المؤدية إلى الإعاقة الحركية في العالم، إذ يُسبب هشاشة شديدة في العظام تجعلها قابلة للكسر عند أقل حركة أو صدمة، وقد يحدث الكسر أحيانًا دون أي سبب ظاهر.
هذا المرض الوراثي النادر يرتبط بخلل في الجينات المسؤولة عن إنتاج بروتين الكولاجين من النوع الأول، وهو البروتين الذي يمنح العظام صلابتها ومرونتها في الوقت نفسه، وعند حدوث هذا الخلل تصبح العظام ضعيفة وهشة منذ المراحل الأولى لتكوين الجنين، فيولد الطفل بعظام قابلة للكسر بسهولة شديدة.
مرض وراثي نادر
غالبًا ما يُصاب الطفل بالمرض إذا كان أحد الوالدين حاملاً للجين المعيب، غير أن بعض الحالات تظهر بشكل عشوائي نتيجة طفرات جينية جديدة لم تكن موجودة في العائلة من قبل، وهو ما يجعل الاكتشاف المبكر صعبًا في كثير من الأحيان.
وقد بدأ الأطباء في التعرف على طبيعة هذا المرض منذ القرن السابع عشر، حين وُصفت أولى حالاته في الأدبيات الطبية الأوروبية، لكن الفهم الجيني الدقيق له لم يتحقق إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، مع تطور تقنيات تحليل الكولاجين ودراسة تركيب الحمض النووي.
ومنذ ذلك الحين، تمكن العلماء من تصنيف المرض إلى ثمانية أنواع تختلف في شدتها، تتراوح بين حالات خفيفة يعيش أصحابها حياة شبه طبيعية، وأخرى شديدة تؤدي إلى تشوهات حادة في العظام وقد تُسبب الوفاة في سن مبكرة.

الأعراض المبكرة للمرض
تبدأ أعراض المرض عادة في الطفولة المبكرة، حيث يُلاحظ على الطفل تعرضه للكسور المتكررة دون سبب واضح، مع قصر في القامة وتشوه تدريجي في شكل الأطراف، كما قد يعاني المريض من ضعف في السمع نتيجة هشاشة العظام الدقيقة في الأذن الوسطى، إلى جانب اصطباغ أزرق في بياض العين، وليونة في المفاصل تؤثر على الحركة وتسبب الألم المستمر.
التأهيل وأساليب العلاج
ورغم أن الطب لم يتوصل حتى اليوم إلى علاج شافٍ للعظم الزجاجي، فإن العقود الأخيرة شهدت تقدمًا ملحوظًا في طرق العلاج والتأهيل. فقد ساهمت أدوية البيسفوسفونات في تقوية العظام وتقليل معدل الكسور، كما ساعدت برامج العلاج الطبيعي على الحفاظ على حركة المفاصل وتحسين اللياقة العضلية دون إجهاد الهيكل العظمي، بينما يُعد التدخل الجراحي خيارًا ضروريًا في بعض الحالات لتصحيح التشوهات أو تثبيت العظام المكسورة بواسطة دعامات معدنية.
فقدان القدرة على الحركة
لكن مع كل هذه الوسائل العلاجية، تبقى رحلة المريض مع العظم الزجاجي قاسية وطويلة، إذ يُعاني الكثيرون من فقدان القدرة على الوقوف والمشي منذ سنواتهم الأولى، ويضطرون إلى الاعتماد على الكراسي المتحركة أو الأجهزة المساعدة للحركة، هذا الأمر يجعل المرض واحدًا من أكثر الأسباب المباشرة للإعاقات الحركية، حيث لا يقتصر تأثيره على الجانب الجسدي فحسب، بل يمتد ليشمل الأثر النفسي والاجتماعي نتيجة الخوف الدائم من السقوط والكسور والعزلة التي قد يفرضها المرض على المصاب.

وفي هذا الإطار أكدت الدكتورة رشا محب الحسيني، أستاذ أمراض العظام الوراثية بالمركز القومي للبحوث بمصر، لـ”جسور”، إن مرض العظم الزجاجي يُعد من أبرز الأمراض الوراثية المسببة للإعاقة الحركية، وهو من الاضطرابات النادرة التي تصيب النسيج الضام نتيجة خلل في تكوين بروتين «الكولاجين» من النوع الأول.
وهو البروتين المسؤول عن قوة وصلابة العظام، وأوضحت أن هذا الخلل يجعل العظام شديدة الهشاشة، بحيث يمكن أن تتعرض للكسور المتكررة حتى دون أي إصابة واضحة، مشيرة إلى أن بعض الحالات تُكتشف منذ فترة الحمل أو الولادة، بينما لا تظهر الأعراض لدى آخرين إلا بعد مرور سنوات، عندما تبدأ الكسور المتكررة أو التشوهات في العظام والأطراف.
تشوهات العمود الفقري
وسُمّي مرض العظم الزجاجي بهذا الاسم لأن عظام الطفل المصاب تشبه الزجاج القابل للكسر عند أقل احتكاك أو حركة، فالعظام لا تحتاج إلى صدمة قوية لتنكسر، بل قد تحدث الكسور المتكررة والمضاعفة نتيجة ممارسات يومية بسيطة جدًا، مثل حمل الطفل أو تبديل ملابسه، مما يجعل التعامل مع هذه الحالات بالغ الصعوبة ويحتاج إلى وعي طبي وأسري خاص لتجنب المضاعفات.
تحديد نوع الطفرة
وأضافت الحسيني أن الكشف الوراثي المبكر لمرض العظم الزجاجي يُعد خطوة أساسية في الوقاية والعلاج، لأنه يساعد على تحديد نوع الطفرة الجينية بدقة، وبالتالي وضع خطة علاج مناسبة لكل حالة. وأكدت أن هناك عدداً من الحالات التي تصل إلى العيادة بعد سنوات من التشخيص الخاطئ في مرحلة الطفولة، حيث يُعتقد أحياناً أن الكسور المتكررة ناتجة عن ضعف عام أو نقص في الكالسيوم، وهو ما يؤدي إلى تأخر العلاج الصحيح وتفاقم الحالة وحدوث تشوهات أو إعاقات حركية يصعب علاجها لاحقاً.
لذلك شددت على ضرورة توعية الأطباء وأسر الأطفال بأهمية الفحص الوراثي عند ظهور أي مؤشرات غير طبيعية في نمو العظام أو كثرة الكسور دون سبب واضح.
وأوضحت أن العيادة المتخصصة لتشوهات العظام الوراثية بالمركز القومي للبحوث بمصر تتابع مئات الحالات من هذا المرض ضمن منظومة دقيقة للتشخيص والعلاج، تبدأ من الفحص الإكلينيكي الشامل ودراسة التاريخ الوراثي للأسرة وشجرة العائلة، مروراً بإجراء التحاليل الجينية المتخصصة لتحديد نوع الطفرة المسببة للمرض، وصولاً إلى تقديم الاستشارة الوراثية للأسرة لمعرفة احتمالات تكرار الإصابة بين الأبناء أو الأجيال المقبلة.

منظومة علاجية متكاملة
وبيّنت رشا محب أن العلاج بمادة “البيسفوسفونات” (Bisphosphonates) يُعد أحد أهم محاور علاج مرض العظم الزجاجي، حيث تعمل هذه المادة على زيادة كثافة العظام وتقليل معدل الكسور بشكل ملحوظ، وذلك من خلال تقوية النسيج العظمي وتقليل معدل تكسّر الخلايا المسؤولة عن هشاشته.
وأوضحت أن العلاج يُعطى بجرعات محددة وتحت إشراف طبي دقيق داخل العيادة، وفق بروتوكولات علاجية عالمية أثبتت فعاليتها في تحسين حالة المرضى والحد من الإعاقات الناتجة عن الكسور المتكررة، ومن الممكن أن يتم الحقن بمادة “البيسفوسفونات” (Bisphosphonates) عن طريق الوريد، وتُحدد جرعته وفقًا لشدة الحالة، حيث يُعطى بعض المرضى الحقن كل ثلاثة أشهر، بينما تُحدد فترات أخرى تمتد إلى ستة أشهر للحالات الأقل حدة.
مؤكدة أن هذا العلاج يُسهم في تقوية العظام وتقليل معدلات الكسور بشكل واضح عند الالتزام بالمتابعة الطبية المنتظمة، وأن العلاج لا يعتمد على دواء واحد، بل هو منظومة متكاملة تشمل العلاج الدوائي لتحسين كثافة العظام وتقليل الكسور، والعلاج الطبيعي للحفاظ على الحركة وتجنب الإعاقة، إلى جانب التدخل الجراحي في بعض الحالات لتثبيت العظام أو تصحيح الاعوجاجات الناتجة عن الكسور المتكررة.
ويتابع الأطباء والخبراء المتخصصين تطور كل حالة بدقة، ويقدمون أحدث نظم العلاج تحت إشراف علمي مستمر، مما يساهم في تحقيق تحسن ملحوظ لدى العديد من المرضى وتقليل عدد الكسور بشكل كبير.
ضرورة الوعي والتدخل المبكر
وأكدت الحسيني على أهمية التوعية المجتمعية والاستشارات الوراثية قبل الزواج للحد من انتقال الأمراض الوراثية المسببة للإعاقات الحركية، وعلى ضرورة توجيه الأسر إلى المراكز المتخصصة فور ملاحظة أي علامات لهشاشة العظام أو الكسور المتكررة لدى الأطفال، مشددة على أن التدخل المبكر يمكن أن يحدث فارقاً كبيراً في حياة المصابين ويحول دون تطور الإعاقة.
موضحة: “الوعي بطبيعة المرض وخطورته هو الخطوة الأولى نحو العلاج، وهناك حالة دائمًا ما أذكرها، لطفلة كانت تتلقى العلاج مبكرًا لدينا في المركز القومي للبحوث، بعد تشخيص إصابتها بمرض العظم الزجاجي، وسط دهشة أسرتها، إذ لم يكن أحد من العائلة مصابًا بهذا المرض من قبل. وهنا نحرص دائمًا على توضيح أن كلمة “مرض وراثي” لا تعني بالضرورة وجود حالات سابقة في العائلة، فقد يكون الجين المسبب موجودًا دون أن يظهر من قبل، ويُعلن عن نفسه لأول مرة في الطفل المصاب.
هذه الطفلة كانت أسرتها على درجة عالية من الوعي، التزموا بالعلاج والحقن المنتظمة، ومع مرور الوقت كبرت الفتاة وأصبحت بصحة جيدة، وتزوجت، وأنجبت طفلة، والمبشّر في قصتها أن ابنتها تم تشخيصها بمرض العظم الزجاجي وهي لا تزال جنينًا في رحم أمها، ما أتاح التدخل المبكر وتلقي العلاج منذ الأيام الأولى، فصارت حالتها مستقرة جدًا بفضل هذا الوعي والتشخيص المبكر.
وهذه القصة أستشهد بها دائمًا لتأكيد أن الوعي والتشخيص المبكر هما مفتاح الأمل في التعامل مع الأمراض الوراثية المعقدة مثل العظم الزجاجي.