يقف الفيلم المصري «ضي – سيرة أهل الضى» للمخرج كريم الشناوي، والذي ينطلق عرضه غدا الأربعاء 3 سبتمبر 2025، كنقطة التقاء بين الفن والواقع، مقدما سردية سينمائية تستكشف حياة مراهق مصاب بالمهق، ومن قلب هذه القصة الفنية، ينبع سؤال جوهري يعكس صراعا يوميا يواجهه المصابون بهذه الحالة: «هل يعد المهق إعاقة؟».
الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة أو أحادية الجانب، فهي لا تقتصر على تعريف طبي جاف، بل تمتد لتشمل أبعادا قانونية واجتماعية، سنحاول سويا تفكيك هذا السؤال من خلال تحليل ثلاثي الأبعاد: المنظور الطبي الذي يحدد التحديات الفسيولوجية، والمنظور القانوني الذي يدرس كيفية تصنيف الحالة ضمن الأطر الرسمية، وأخيرا المنظور الاجتماعي الذي يكشف عن الكيفية التي تحول بها المفاهيم الخاطئة والتمييز حالة طبية إلى إعاقة اجتماعية كاملة.
«عدو الشمس».. حقائق طبية ودلالات سريرية
يعرف المهق Albinism الذي يطلق عليه أحيانا «الألبينية» أو «البرص»، بأنه اضطراب وراثي نادر وغير معد، يحدث بسبب طفرة في الجينات تؤدي إلى غياب كامل أو جزئي لمادة الميلانين، وهي الصبغة الطبيعية المسؤولة عن لون الجلد، والشعر، وقزحية العين، وعلى الرغم من أن المهق حالة تستمر مدى الحياة ولا تزداد سوءا بمرور الوقت ، إلا أن غياب الميلانين يؤدي إلى سلسلة من التحديات الصحية التي تتطلب رعاية خاصة.
تتعدد أنواع المهق بحسب الجين المسبب، وأكثرها شيوعا هو المهق البصري الجلدي (OCA) الذي يؤثر على الجلد والشعر والعينين، أما النوع الأقل شيوعا فهو المهق البصري (OA) الذي يؤثر بشكل رئيس على العينين فقط، وعلى الرغم من اختلاف درجات تأثير المهق على الأفراد، إلا أن جميع المصابين يواجهون تحديات بصرية.
تتضمن الأعراض البصرية للمهق مجموعة من المشكلات المعقدة التي تنشأ عن نقص الميلانين في العين، فالمصابون يعانون من «الرأرأة» (Nystagmus)، وهي حركة لا إرادية وسريعة للعينين، كما أن قلة الصبغة في القزحية تجعلها شفافة إلى حد كبير، مما يسمح بمرور الضوء بشكل مفرط ويؤدي إلى «رهاب الضوء» (Photophobia) أو الحساسية الشديدة للضوء الساطع، إضافة إلى ذلك، يعاني العديد من المصابين من «الحول» (Strabismus)، حيث تتحرك العيون في اتجاهات مختلفة ، و«انحراف النظر» (Astigmatism) الذي يسبب عدم وضوح الرؤية بسبب انحناء غير طبيعي في سطح العين. وقد يكون ضعف البصر شديدا لدرجة تؤدي إلى ما يعرف ب «العمى القانوني» (رؤية أقل من 20/200).
وبالإضافة إلى التحديات البصرية، يواجه المصابون بالمهق مخاطر جلدية جسيمة، فغياب الميلانين الذي يحمي الجلد من الأشعة فوق البنفسجية يجعلهم معرضين بشكل كبير لحروق الشمس، كما يزيد من احتمالية إصابتهم بسرطان الجلد، وخاصة الكارسينومة الحرشفية الخلايا. ولهذا السبب، يطلق عليهم في كثير من الأحيان اسم «أعداء الشمس».
إن وصف «عدو الشمس» المستخدم في الفيلم له دلالات عميقة تتجاوز كونه مجرد تسمية طبية، فمن الناحية الطبية، هو وصف دقيق، حيث أن غياب الميلانين يجعل أشعة الشمس خطرا حقيقيا على صحة المصابين، لكن استخدام كلمة «عدو» يحمل دلالة سلبية تخلق صورة ذهنية للمصاب وكأنه في حالة عداء مع الطبيعة، مما يعزز فكرة «الآخر» المختلف أو المنبوذ، هذا المصطلح رغم دقته العلمية يساهم بشكل مباشر في الوصم الاجتماعي الذي يواجهونه.
وتعكس هذه التحديات الطبية الحاجة إلى تصنيف المهق كإعاقة، ففي حين أن المهق ليس إعاقة ذهنية، وهو أحد المفاهيم الخاطئة الشائعة التي يجب تصحيحها ، إلا أن المشكلات البصرية والجلدية تفرض قيودا كبيرة على حياة المصابين، قد تفسر صعوباتهم في التعلم أو التفاعل الاجتماعي، والتي هي نتيجة مباشرة لضعف البصر أو التحديات البيئية، بشكل خاطئ على أنها نقص عقلي. وهذا الاعتقاد يضاعف من معاناتهم، ويؤدي إلى مزيد من التهميش والاستبعاد.

الإطار القانوني والتصنيف الرسمي
يعد تصنيف المهق كإعاقة خطوة حاسمة لضمان حقوق المصابين، ففي القانون لا تعرف الإعاقة كحالة طبية فحسب بل كحالة اجتماعية، وهذا ما تؤكده اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (UN CRPD) التي تعرف الإعاقة بأنها «مفهوم يتطور» وينتج عن «التفاعل بين الأفراد المصابين بقصور ما والحواجز البيئية والمواقف السلبية التي تحول دون مشاركتهم بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين».
وفي السياق المصري، يسري القانون رقم 10 لسنة 2018 بشأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ويعرف القانون الشخص «ذي الإعاقة» بأنه «كل شخص لديه قصور أو خلل كلي أو جزئي، سواء كان بدنيا، أو ذهنيا، أو عقليا، أو حسيا، إذا كان هذا الخلل أو القصور مستقرا، مما يمنعه من المشاركة بصورة كاملة وفعالة مع المجتمع وعلى قدم المساواة مع الآخرين».
وعلى الرغم من أن القانون لم يذكر المهق صراحة ضمن الفئات المشمولة، إلا أن الأعراض البصرية التي يعاني منها المصابون، مثل ضعف البصر الشديد والرأرأة ، تندرج بوضوح تحت تعريف «الخلل الحسي».
وعلى الرغم من هذا التطابق النظري، إلا أن غياب الإشارة الصريحة إلى المهق في القانون يخلق فجوة بين النص القانوني والتطبيق العملي، ولهذا السبب يطالب نشطاء ومصابون بالمهق صراحة بإضافة كلمة «الألبينو» إلى القانون.
هذه المطالبة ليست مجرد تفضيل لغوي، بل هي نتيجة مباشرة للمقاومة المؤسسية وعدم الوعي الذي يواجهه المصابون عند محاولتهم الحصول على حقوقهم الأساسية، مثل «المعينات البصرية» الضرورية لممارسة حياتهم اليومية، وخاصة للطلاب وهذا الصراع من أجل الاعتراف القانوني يثبت أن الإعاقة ليست مجرد حالة بيولوجية، بل هي عملية اجتماعية مستمرة تتطلب الاعتراف والتكيف.
وعلى الصعيد الدولي، يعزز المفهوم القانوني للمهق كإعاقة من خلال تصنيفه كقضية حقوق إنسان، فمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يطالب بالنظر إلى المصابين بالمهق «كمجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة التي تتطلب اهتماما خاصا»، كما كلف المجلس خبيرا مستقلا معنيا بتمتع الأشخاص ذوي المهق بحقوق الإنسان، بهدف إنهاء العنف والتمييز ضدهم، هذا التصنيف يربط المهق بالإعاقة بطريقة تتجاوز الجانب الطبي لتصل إلى العدالة الاجتماعية، ويؤكد أن التمييز الذي يتعرضون له هو نتيجة للاعتداءات الاجتماعية التي تجعلهم مجموعة تحتاج إلى حماية خاصة.
الوصم الاجتماعي والتمثيل الإعلامي
غالبا ما تكون التحديات الاجتماعية والنفسية التي يواجهها المصابون بالمهق أشد قسوة من التحديات الجسدية، فبالإضافة إلى العوائق البصرية والاحتياطات الصحية، يعاني الأفراد المصابون بالمهق من التمييز والاستبعاد الاجتماعي والتهميش بسبب مظهرهم المختلف، وفي بعض المجتمعات، ترتبط حالتهم بالخرافات والمفاهيم الخاطئة التي تعرض حياتهم للخطر، مما يؤدي إلى الوصم والعنف.
وتلعب وسائل الإعلام والسينما دورا محوريا في تشكيل هذه التصورات السلبية، فقد صورت صناعة السينما في كثير من الأحيان الأشخاص المصابين بالمهق بشكل سلبي ونمطي، مفضلة إظهارهم كأشرار أو شياطين.
هذا التمثيل الإعلامي السلبي لا يقتصر على كونه انعكاسا للواقع، بل هو عامل رئيس في تشكيل الصور الذهنية فاستخدام المهق كصفة للشخصية الشريرة يربط الاختلاف الجسدي بالشر الأخلاقي، مما يرسخ الصور النمطية السلبية ويعززها. هذا التصوير المضلل هو سبب مباشر للتنمر والوصم الذي يتعرض له المصابون في حياتهم اليومية.

وفي هذا السياق يأتي فيلم «ضي» كمحاولة واعية لتصحيح مسار عقود من التمثيل الإعلامي السلبي، فهو يقدم قصة مضادة تركز على موهبة المراهق وقدرته على تحقيق أحلامه، مما يكسر القالب النمطي للشخصية الشريرة ويعيد الإنسانية إلى الصورة.
هذا الفيلم لا يمثل مجرد قصة إيجابية، بل هو «ترياق» إعلامي للسموم الاجتماعية التي نشرتها أفلام سابقة.
وعلى الرغم من هذه التحديات، هناك جهود حثيثة من منظمات المجتمع المدني لزيادة الوعي وتوفير الدعم، وقد دعا نشطاء في مصر إلى تأسيس جمعية خيرية للأطفال المصابين بالمهق وإطلاق مبادرات توعوية عبر وسائل الإعلام المختلفة، هذه الجهود تظهر أن الوعي يتزايد، وأن هناك حاجة ماسة إلى الدعم المؤسسي لتمكين هذه الفئة.
بالعودة إلى السؤال المحوري هل يعد المهق إعاقة؟، يمكن القول إن المهق في جوهره هو حالة وراثية وليست مرضا معيقا في ذاته، ولكنه يتحول إلى إعاقة حقيقية بسبب التحديات الفسيولوجية التي يفرضها خاصة ضعف البصر الشديد، وبسبب الحواجز الاجتماعية والقانونية التي يضعها المجتمع.لهذا فإن الإعاقة الحقيقية ليست في غياب الميلانين، بل في غياب التقبل الاجتماعي والفهم الصحيح.
المهق هو «سيرة أهل الضى»، والضى الحقيقي يكمن في قدرة المجتمع على إلقاء الضوء على هذه القضية، ونبذ الظلام المتمثل في الجهل والتمييز، ليتحولوا من «أعداء الشمس» إلى «أهل الضوء».