في قلب سلطنة عُمان حيث تتقاطع الرمال مع البحر وتتمازج الأصالة بالمعاصرة، يعيش فهد سالم، الأديب والمثقف والناشط، الذي حمل على كتفيه مهمة لا تشبه سواها، وهى إشعال شرارة الوعي من خلال الكتاب.
لم يلتحق فهد سالم يومًا بمدرسة نظامية، ولم تمنحه الحياة المسارات والفرص المعتادة، لكنه صنع من حواجز الإعاقة طريقًا مفروشًا بالكتب، ومضبوطًا على إيقاع القراءة والتأمل.
رغم إعاقته الجسدية التي تجاوزت نسبتها 90%، اختار فهد أن يجعل من القراءة مشروع عمر ومن الكلمة سلاحًا لمناصرة الوعي، لا يتحدث فهد عن بطولات بل عن تراكمٍ هادئٍ ومثابرٍ لصوت يريد أن يُسمَع، وعن طموح يتجاوز ذاته، ليصل إلى الآخر الغافل، الآخر الذي لم يُمنح فرصة المعرفة بعد.
القراءة أولًا ثم تأتي الكتابة
لم تكن لحظة التحول إلى الكتابة عند فهد لحظة عابرة، بل كانت ثمرة طبيعية لمسيرة طويلة من القراءة.
يقول إنه بدأ رحلته مع الكتب مبكرًا جدًا، داخل جدران بيته حين كان التعليم الذاتي هو خياره الوحيد، هناك، في هذا العالم المصغر تشكلت شخصيته وولدت علاقته بالقراءة، ومن رحم هذه العلاقة بدأت الكتابة تظهر كأثر جانبي، تلميحات يكتبها على هوامش الذاكرة ونصائح بقراءة كتب أثرت فيه، إلى أن تحولت هذه التلميحات إلى مراجعات مكتملة تنشر على نطاق واسع.
الكتابة بالنسبة له ليست سوى انبثاق طبيعي لحالة تراكمية من التفاعل مع الكتب وسرعان ما صارت جزءًا من هويته الثقافية.
الإعاقة عدسة لرؤية العالم بشكل أعمق
يقر فهد بأن الإعاقة شكّلت منظوره للعالم، فهي لا تعني فقط قيودًا جسدية، بل تغير في طريقة إدراك العلاقات والتفاصيل والناس، فقد منحته، كما يقول، عدسةً مختلفة لرؤية الحياة وعمقًا إضافيًا لتأمل سلوك البشر، وموقعه من المجتمع.
ورغم ذلك، لم يشعر يومًا بأنه مطالب بإثبات مضاعف، لأنه كاتب من ذوي الإعاقة، ببساطة، لم يكن هدفه الشخصي أن يُعرَف ككاتب فقط، بل أن يُحب الناس القراءة، هذا هو جوهر رسالته.
التحديات تبدأ من نظرات الآخرين
من أكبر التحديات التي واجهها، كما يروي، كانت نظرات التساؤل والاستغراب “لماذا تقرأ وما الفائدة؟”.
تلك النظرات لم تكن مجرد استفسارات بل كانت اختبارات يومية لمشروعية شغفه، وكان عليه أن يشرح، مرارًا، أن القراءة حق شخصي ومسؤولية ووسيلة لفهم الذات والآخر.
أما النشر كما يراه، فلم يعد عقبة في زمن المنصات الرقمية، استطاع فهد أن يجد له مكانًا في فضاء الكتابة يعبّر فيه بحرية وينشر دون قيود.
“فوق رأسي مكتبة” العنوان الذي يشبهني
في كتابه الأثير “فوق رأسي مكتبة” يقدّم فهد خلاصة سنوات من القراءة والكتابة، ويختار عنوانًا نابضًا بالعاطفة يشبهه، يقول”كلما سُئلت عن كتاب، وجدت في رأسي نبذة وفكرة عنه، كأن رأسي مكتبة فعلًا”.
قسّم الكتاب إلى “رفوف” يحوى جل اهتماماته، السياسة والاجتماع والأدب والتاريخ وعلم النفس، كتبه بجهد مضاعف، بإصبع واحدة في يده اليمنى التي لا تزال تنبض بالحياة، استغرق وقتًا طويلًا لكنه كان تحديًا شخصيًا وغاية إنسانية ترك بها أثرًا لن يُنسى.
ذوي الإعاقة في الأدب والإعلام.. تمثيل باهت واحتفاء موسمي
حين يتأمل فهد تمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة في الأدب العربي، يشعر بالأسف، فغالبًا ما يكون الحضور باهتًا ومقتصرًا على تمجيد التحدي وليس تسليط الضوء على جودة الإنتاج، ويرى أن الأصوات الأصيلة من ذوي الإعاقة بحاجة إلى دعم حقيقي، لا إلى شفقة.
يقول فهد”أما في سلطنة عُمان، فالوضع كما يصفه، لا يرتقي للطموح، لا احتفاء كافيًا بإبداعات الكتّاب من ذوي الإعاقة، ولا إنصافًا لجهودهم”ما نريده هو تكريم منصف يضع العمل في كفة، لا ظروف صاحبه” .
غياب الأدوات وتجاهل القدرات
يرى فهد أن المؤسسات الثقافية يمكنها لعب دور جوهري، إذا ما أتيحت الأدوات اللازمة، كورش وأدوات مساعدة وغرف إبداعية مهيأة، كلها تفاصيل قد تفتح المجال أمام طاقات معطلة.
يروي أنه تحول من قارئ ورقي إلى قارئ إلكتروني وسيتحول لاحقًا إلى كاتب صوتي بسبب تدهور حالته الصحية، ويأسف لأن أغلب الورش موجهة للأشخاص العاديين، وكأن ذوي الإعاقة لا يُنظر إليهم كمبدعين محتملين.
كل ما تحقق كان بجهود ذاتية
رغم كل ما قدمه لم يتلقَّ فهد دعمًا رسميًا يُذكَر، ظهوره الإعلامي، كحلقته السنوية في برنامج “كتاب أعجبني” مع الإعلامي سليمان المعمري، ثمرة جهود شخصية لا مؤسسة داعمة.
يقول إن الوضع الثقافي في عُمان والمنطقة بأكملها لا يزال يُقصي هذه الفئة أو على الأقل لا يضعها ضمن أولوياته.
الإعلام العربي موسمي وسطحي
ويؤكد أن الإعلام العربي لا ينصف قضايا ذوي الإعاقة بل يتناولها من باب “الزينة الموسمية” في المناسبات كاليوم العالمي للإعاقة، دون عمق، فلا مقالات ولا تحقيقات ولا أصوات مستمرة.
ويشير إلى أن قضايا ملحة لهذه الفئة كصعوبة الزواج وقلة فرص العمل والافتقار للامتيازات، كملفات مسكوت عنها في الإعلام.
رسائل للإعلام ورسالة للحياة
يحلم فهد بإعلام يحمل رسائل توعية يومية بسيطة ومستمرة، تُعيد تشكيل الوعي المجتمعي تدريجيًا، مثل”لا تركن في مواقف ذوي الإعاقة” “ادعم زواجهم” “عاملهم بمساواة” رسائل صغيرة لكنها مع الزمن، تترك أثرًا كبيرًا.
أما على المستوى الإنساني، فيحلم فهد بأن يسود الوعي بأهمية التبرع بالأعضاء في المجتمعات العربية، و يرى في ذلك قمة العطاء والنبل ونوعًا من الخلود الإنساني.
مشروعه الأدبي القادم، كما يقول، سيكون امتدادًا لكتابه الأول وربما أكثر نضجًا وتأملًا.
ووجّه فهد رسالة لكل من يعيش تحديات مشابهة، قائلا: “لدينا جميعًا دور على مسرح هذه الحياة، الإعاقة قد تخلق بشرًا أكثر تصالحًا مع أنفسهم وأكثر إصرارًا على أن يروا النور في آخر النفق”.