كانت شوارع برشلونة تضجّ بالهتافات وعبارات الثناء والتشجيع، حين عبر العداء الإسباني أليكس روكا كامبيو خط النهاية في ماراثون المدينة الدولي، تحديدا في مارس 2023، ليسجل اسمه كـ أول شخص في العالم بنسبة إعاقة تبلغ 76% يُكمل ماراثونًا كاملًا لمسافة 42.195 كيلومترًا.
لم يكن هذا الرقم مجرد إنجاز رياضي، بل كان لحظةً إنسانية خالصة أعادت تعريف معنى الإرادة، فقد وُلد أليكس مصابًا بـ الشلل الدماغي نتيجة التهاب دماغي في طفولته المبكرة، ما ترك أثرًا دائمًا على عضلاته وحركته ونطقه.
ورغم ذلك، رفض أن يكون أسيرًا للجسد، وبدأ منذ سنوات عمره الأولى معركةً طويلة ضدّ حدود الحركة واللغة والخوف.
وفي أكتوبر 2025، عاد أليكس ليشارك تجربته في بودكاست Mentes Valientes (العقول الشجاعة) الذي تبثّه صحيفة El País الإسبانية، في حلقة تناولت موضوع تجاوز المآسي والخوف، كان حديثه صادقًا ومليئًا بالتأملات التي تمسّ كل من جرّب الشعور بالعجز ثم قرر النهوض من جديد.
يقول: «في أول يوم لي في المدرسة شعرت بأنني مختلف عن الآخرين، لكنّي قررت ألا أعيش في ظلّ هذا الاختلاف، بل أجعل منه دافعًا».
تبدأ قصة أليكس من تلك اللحظة، لم يكن الطريق سهلًا، لكنه كان مليئًا بأصوات التشجيع، أهمّها صوت جده الذي قال له ذات يوم:«تعال يا أليكس، تمسّك بإصبعي وخُط خطوة» كانت تلك الخطوة الأولى نحو حياةٍ قرر أن يعيشها بطريقته الخاصة.
تدرّب أليكس على الجري والسباحة وركوب الدراجات، ووجد في الرياضة وسيلةً لاستعادة السيطرة على جسد، وبفضل دعم أسرته ومدرّبيه، تحوّل العلاج الطبيعي إلى شغفٍ حقيقي. لم يكن هدفه أن ينافس الآخرين، بل أن يُثبت أن «القيود التي نصنعها في أذهاننا أقوى من تلك التي يفرضها الجسد».
وفي اللقاء، تحدث أيضًا عن علاقته بزوجته ماري كارمي مازا، التي وصفها بأنها «صوته المساند» في الحياة والرياضة، ترافقه في سباقاته، تترجم كلماته، وتشاركه لحظات السقوط والانتصار.، يقول عنها: «ليست فقط زوجتي، بل المرآة التي أرى فيها نفسي حين أنسى قوتي».
وبين عامي 2023 و2025، لم يتوقف أليكس عن التحدي. ففي سبتمبر الماضي، شارك في مغامرة إنسانية جديدة بتسلّق خمس قمم فرنسية شهيرة بالدراجة الثلاثية العجلات دعمًا لمؤسسة «CRIS ضدّ السرطان»، في مبادرة جمعت بين الرياضة والتضامن الإنساني.
ورغم أنه لم يشارك في سباق رسمي جديد في أكتوبر الحالي، إلا أن ظهوره الإعلامي الأخير كشف عن عمق تجربته ونضوج رسالته. يقول في إحدى فقرات البودكاست:«الحياة تبدأ من الجانب الآخر من الخوف. عندما تواجه خوفك، تكتشف أن ما كنت تظنه نهاية هو في الحقيقة بداية».
وفي حديثه عن مفهوم الإعاقة، شدّد على أنه لا يريد أن يُنظر إليه كـ «بطل خارق» أو «استثناء»، بل كإنسان يعيش حياة عادية بإصرار استثنائي. يستطرد: «لا أحب كلمة “إعاقة”… نحن أشخاص ذوو قدرات مختلفة، ونستحق أن نُعامل على هذا الأساس».
رسالة أليكس وجدت صدى واسعًا في إسبانيا وخارجها. فقد تحوّل إلى رمزٍ وطنيّ للصلابة والتحدي، وتبنّت مؤسسات رياضية وتعليمية حملاته الداعية إلى دمج ذوي الإعاقة في الأنشطة العامة. وأصبحت قصته تُدرّس في ورش القيادة والتحفيز كأنموذج على تجاوز الحدود الذاتية.
لكن وراء الإبهار هناك جانب إنساني أكثر عمقًا. فالرجل الذي يُصفّق له الآلاف عند خط النهاية، هو نفسه من يحتاج وقتًا أطول لارتداء حذائه أو كتابة رسالة قصيرة بيده اليسرى فقط. وهو نفسه من يواجه نظرات الشفقة أحيانًا بابتسامة هادئة تقول: «أنا لا أحتاج شفقة، أحتاج فرصة».
قصة أليكس روكا تفتح بابًا واسعًا للتفكير في واقع ذوي الإعاقة في العالم العربي، حيث لا يزال كثيرون محرومين من البنية الرياضية الداعمة أو الاعتراف الكامل بحقهم في الإنجاز، إن ما تحقق في إسبانيا بفضل الدعم المجتمعي والوعي المؤسسي يمكن أن يتحقق في مصر أو الكويت أو أي بلدٍ آخر إذا تغيّرت النظرة إلى مفهوم “القدرة”.
وفي ختام الحلقة، قال أليكس بصوته المفعم بالهدوء والإصرار:«إذا أردت شيئًا بإصرار، ولم تستسلم، ستحقّقه، الجسد قد يقيّدك، لكن الإرادة دائمًا أوسع من القيود».
تلك الجملة هي مفتاح القصة كلّها. إنها ليست عن رياضي فقط، بل عن إنسان قرر أن يركض في الاتجاه المعاكس للقدر، وأن يعلّم العالم أن الخطوة الأولى تبدأ من القلب لا من القدم.


.png)


















































