قبل أن تصبح العصا البيضاء رمزًا عالميًا للاستقلال والكرامة للمكفوفين، كانت العصا تُستخدم لأغراض مختلفة تمامًا، فمنذ قرون، ففي العصور القديمة، استخدم البشر العصا كوسيلة للدفاع عن النفس، وأداة لتوجيه الغنم أثناء الرعي، كانت العصا سوداء اللون وطويلة.
كانت العصا قديما من الخشب الصلب، وتُحمل بطريقة تمنح حاملها توازنًا وحماية في آنٍ واحد، في إحدى اللوحات الفنية التي تعود إلى عام 1758 للفنان الإيطالي فرانشيسكو لندنيو، يظهر راعٍ يحمل عصاه أمام امرأة وطفل، في مشهد يوثق الاستخدام العملي للعصا كأداة ضرورية للرعي وحماية الأسرة والغنم من الخطر.

منعطف تاريخي على يدر مصور
ومع مرور الزمن، تطورت استخدامات العصا حتى وصلت إلى منعطف تاريخي في عشرينيات القرن الماضي، ففي عام 1921، وفي مدينة بريستول البريطانية، قرر المصور جيمس بريغز، الذي فقد بصره بسبب حادث، أن يطلي عصاه باللون الأبيض، لم يكن ذلك لتمييزها فنيًا، ليراها السائقون بوضوح أثناء عبوره الطرق.
بريغز، الذي أصبح أحد أوائل من فكروا في العصا كوسيلة للسلامة، وضع حجر الأساس لما سيُعرف لاحقًا بالعصا البيضاء، رمز الاستقلال وحق التنقل الآمن للمكفوفين ليس في مدينته بريستول .
وفي عام 1930، شهدت فرنسا لحظة فارقة في مسيرة العصا البيضاء، فقد لاحظ أعضاء في نادي ليونز أن استخدام عصا سوداء لا يكفي لجذب انتباه السائقين، فبدأوا الترويج لفكرة العصا البيضاء، وسرعان ما تبنت الناشطة الاجتماعية “غيلي ديربمون” هذه الفكرة، مطلقة حملة واسعة لتوزيع العصا البيضاء في فرنسا.
فرنسا تعتمد اللون الأبيض للعصا
وفي السابع من فبراير عام 1931، قدمت ديربمون عصوين أبيضين هما الأولان من نوعهما إلى شخصين كفيفين، بحضور وزراء فرنسيين، في مشهد رمزي شكّل انطلاقة حقيقية لاعتراف المجتمعات بحق المكفوفين في التنقل الآمن.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، عاد العديد من الجنود المكفوفين إلى بلدانهم بحاجة إلى وسيلة فعالة للتنقل، هنا برز دور الدكتور ريتشارد هوفر، أخصائي تأهيل المحاربين القدامى في الولايات المتحدة، الذي طوّر أسلوب “العصا الطويلة”.
كانت الفكرة أن تتحرك العصا بشكل متأرجح من منتصف الجسم يمينًا ويسارًا، ما يسمح بالكشف المسبق عن العوائق الأرضية، هذه التقنية الثورية غيّرت تمامًا طريقة تنقل المكفوفين، ورسّخت العصا البيضاء كأداة ضرورية وليست رمزية فقط.
جونسون يخلد يوم العصا البيضاء عالميا
في عام 1964، أصبحت العصا البيضاء أكثر من مجرد أداة، بعد أن وقع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قرارًا رسميًا بإعلان يوم 15 أكتوبر “يوم العصا البيضاء”. وقال في خطابه حينها إن “العصا البيضاء أصبحت رمزًا لقدرة المكفوفين على التنقل والاستقلال في مجتمعنا”، مؤكدًا على أهميتها في الحياة المدنية.
العصا البيضاء أكثر تطورًا وراحًة
أما اليوم، فالعصا البيضاء مصنوعة من مواد حديثة مثل ألياف الكربون والألمنيوم، وتتوفر بأشكال مختلفة، منها الصلبة والقابلة للطي والتلسكوبية. تتكون من مقبض مريح، وعمود أبيض اللون، وسوار للمعصم، ورأس حساس يتنوع بين الدوار والمعدني والمسطح. ومع كل خطوة يخطوها مستخدمها، تؤكد العصا البيضاء أنها لم تعد أداة دفاع أو رعي، بل جسرًا نحو الكرامة والاستقلال.