بين الوراثة والتلوث.. سباق علمي لفك لغز الإعاقات الغامضة في غابات الأمازون

بين الوراثة والتلوث.. سباق علمي لفك لغز الإعاقات الغامضة في غابات الأمازون

المحرر: سماح ممدوح حسن-البرازيل

في البرازيل، يحذر علماء الصحة والبيئة من كارثة صامتة تتكشف في أعماق غابات الأمازون، حيث بدأت تظهر على أطفال السكان الأصليين أعراض إعاقات عصبية حادة يُرجّح أنها ناجمة عن التلوث بالزئبق الناتج من التعدين غير القانوني للذهب.

وبينما تسعى السلطات إلى مواجهة هذا الخطر الذي يهدد أجيالًا بأكملها، تقول نساء من الشعوب الأصلية إن الخوف من الحمل أصبح جزءًا من حياتهن اليومية، بعد أن تلوثت أنهار كانت لقرون شريان حياتهن.

وحسب  «رويترز»، فإن المجتمعات الأصلية في الأمازون، وعلى رأسها شعب الموندوروكو، تعيش في ظل تهديد بيئي وصحي خطير نتيجة انتشار مناجم الذهب غير القانونية التي تستخدم الزئبق في استخراج المعدن النفيس. وتقول الزعيمة أليساندرا كوراب، وهي من نساء الموندوروكو: «حتى حليب الأم لم يعد آمنًا». ففي قرية ساي شينزا، تعاني الطفلة راني كيتلين، البالغة من العمر ثلاث سنوات، من عجز عن رفع رأسها وتشنجات عضلية مزمنة، بينما لا يزال العلماء يحاولون فهم الرابط بين هذه الأعراض والتعرض المزمن للزئبق.

اضطرابات عصبية غير مفسرة وراثيًا

تشير البيانات الأولية لدراسة علمية غير مسبوقة إلى أن راني واحدة من بين 36 شخصًا، معظمهم أطفال، يعانون اضطرابات عصبية غير مفسرة وراثيًا في مناطق التعدين، ما يعزز فرضية أن الزئبق هو السبب المباشر في الإعاقات الحديثة بين أطفال السكان الأصليين. وعلى الرغم من التحذيرات السابقة من خطورة الزئبق، فإن إثبات العلاقة السببية بين التعرض له والإعاقات لا يزال تحديًا علميًا معقدًا يسعى الباحثون في معهد «فيوكروز» البرازيلي إلى حله.

يعيش والد الطفلة راني، روسييلتون ساو، في معضلة يومية بين الخطر والجوع، إذ يعمل منذ سنوات في التعدين كما كان يفعل والده، مدركًا أن الزئبق سام لكنه مضطر لمواصلته لكسب قوت يومه. يقول: «نستخرج نحو 30 جرامًا من الذهب أسبوعيًا، وبالكاد يكفي للعيش». تعتمد الأسرة على تناول سمك «سوروبِيم» الذي يتراكم في جسده الزئبق، أما راني، التي تعاني صعوبة في البلع، فتكتفي بحساء السمك فقط.

ضعف الخدمات الصحية وصعوبة الوصول إلى الفحوص

تؤكد تقارير الصحة المحلية أن العشرات من سكان القرى المجاورة يعانون أعراضًا مشابهة، لكن ضعف الخدمات الصحية وصعوبة الوصول إلى الفحوص المتقدمة جعل من المستحيل تحديد حجم الأزمة بدقة. وفي محاولة لتوثيق التأثيرات العصبية الناتجة عن التسمم بالزئبق، يجمع الباحثون بيانات عن الأمهات والأطفال ضمن دراسة تمتد حتى عام 2026، تتابع مؤشرات تشمل التشوهات الدماغية، واضطرابات النمو، وضعف الذاكرة، وغيرها من الأعراض التي يمكن أن تتحول إلى إعاقات دائمة.

يُعد الزئبق، الذي يستخدمه عمال المناجم لالتقاط ذرات الذهب الدقيقة في قاع الأنهار، المسؤول الرئيسي عن التلوث، حيث يتسرب إلى المياه والأسماك ويصل إلى أجسام البشر، متراكمًا في أنسجة الأجنة والمشيمة وحليب الأمهات. وتُظهر التحاليل أن نسب الزئبق لدى النساء الحوامل في قرية ساي شينزا أعلى بخمس مرات من الحد الآمن، فيما سجل أطفالهن ثلاثة أضعاف هذه النسبة.

يقول الممرض والزعيم المحلي زيلدومار موندوروكو: «لا أستطيع أن أطلب من شعبي التوقف عن أكل السمك. لو فعلنا سنموت جوعًا». فالغذاء الوحيد المتاح ملوث، والبديل معدوم. ومع أن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا طرد آلاف عمال المناجم من أراضي السكان الأصليين منذ عام 2023، فإن الزئبق المترسّب في البيئة يظل خطرًا مستمرًا، إذ لا يتحلل بسهولة، بل يدور بين الهواء والماء والتربة لعقود.

مراقبة مستويات الزئبق

ومع اقتراب انعقاد قمة الأمم المتحدة للمناخ «COP30» في الأمازون، والتي تُعرف باسم «قمة الغابات»، تستعد البرازيل لعرض جهودها في معالجة الأزمة، حيث أعلنت وزارة الصحة أنها كثّفت مراقبة مستويات الزئبق، ودربت الكوادر الطبية على اكتشاف أعراض التسمم المبكر، واستثمرت في مشاريع لتوفير مياه نظيفة للمجتمعات المتضررة.

يقول الباحث البرازيلي باولو باستا من معهد «فيوكروز»، الذي يدرس تلوث الزئبق منذ أكثر من ثلاثين عامًا: «حتى لو توقف التعدين كليًا، فسيظل الزئبق المترسّب في البيئة لعقود قادمة». وأظهرت أوراق علمية وبيانات جديدة أن هذه الأزمة البيئية قد تخلّف آثارًا دائمة على الأجيال المقبلة، حيث تبيّن أن عشرًا من أصل خمس عشرة أمًّا في ثلاث قرى من الموندوروكو يعانين ارتفاعًا في نسب الزئبق، كما سُجّل أن 12 من أصل 13 شخصًا في قرية يانومامي لديهم مستويات خطيرة في الدم.

وتسعى الدراسة الحالية إلى سدّ الفجوة العلمية عبر تتبع 176 امرأة حاملًا وفحص أطفالهن خلال السنوات الأولى من حياتهم. ومن بين هؤلاء الطفلة رايلين، أخت راني الصغرى، التي لم تظهر بعد أعراضًا رغم وجود نسب مرتفعة من الزئبق في جسدها. وتقول الممرضة كليدياني كارفالهو، التي تعمل على ربط الباحثين بالأطفال المرضى: «مرض الزئبق لا يمكن اكتشافه إلا إذا بحثت عنه. من دون هذه الدراسات ستظل المأساة صامتة ومنسية إلى الأبد».

جريمة مثالية لأنها لا تترك أثرًا

ويحذر الأخصائي الوراثي فرناندو كوك، المشارك في الدراسة بجامعة ساو باولو، من أن الوضع أكثر تعقيدًا مما يبدو، فمجتمعات السكان الأصليين تعاني أمراضًا معدية مزمنة وتفتقر إلى الخدمات الصحية، كما أن الزواج بين الأقارب قد يؤدي إلى اضطرابات وراثية تُشبه أعراض التسمم بالزئبق. يقول كوك: «من المرجح أن الزئبق من بين الأسباب في الحالات الـ36 التي لم تُظهر اضطرابًا وراثيًا، لكن هذا لا يعني غياب عوامل أخرى». ويضيف: «فحوص الزئبق لا تكشف دائمًا التعرض السابق، لأنها تعكس النظام الغذائي الحديث فقط. إنها جريمة مثالية لأنها لا تترك أثرًا».

المقالة السابقة
5 أسبابٍ تدفعنا إلى دعم سياسات توظيف ذوي التوحّد
المقالة التالية
لجنة لإعداد لائحة تنظيمية جديدة للعمل التعاوني في الكويت

وسوم

الإعاقة (3) الاستدامة (32) التحالف الدولي للإعاقة (33) التربية الخاصة (2) التشريعات الوطنية (32) التعاون العربي (32) التعليم (4) التعليم الدامج (4) التنمية الاجتماعية (32) التنمية المستدامة (3) التوظيف الدامج (31) الدمج الاجتماعي (30) الدمج الجامعي (3) العدالة الاجتماعية (3) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (30) الكويت (5) المتحف المصري الكبير (3) المجتمع المدني (30) المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (4) الوقائع الإخباري (2) تكافؤ الفرص (31) تمكين (2) تمكين المرأة (2) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (30) حقوق الإنسان (3) حقوق ذوي الإعاقة (3) دليل الكويت للإعاقة 2025 (29) ذوو الإعاقة (12) ذوو الاحتياجات الخاصة. (30) ذوو الهمم (2) ذوي الإعاقة (9) ذوي الهمم (5) ريادة الأعمال (32) سياسات الدمج (32) شركاء لتوظيفهم (33) قمة الدوحة 2025 (34) كود البناء (35) لغة الإشارة (2) مؤتمر الأمم المتحدة (35) مبادرة تمكين (3) مجتمع شامل (35) مدرب لغة الإشارة (36) مصر (12) منظمة الصحة العالمية (36) وزارة الشؤون الاجتماعية (2)