حماية على الورق وسجن في الواقع.. أروى الوقيان تفتح الملفات المسكوت عنها بدار الإيواء الكويتية 

حماية على الورق وسجن في الواقع.. أروى الوقيان تفتح الملفات المسكوت عنها بدار الإيواء الكويتية 

المحرر: سماح ممدوح حسن- الكويت

في حلقة جديدة من بودكاست “لو مع أروى”، تفتح الإعلامية الكويتية أروى الوقيان بابًا مسكوتًا عنه وتسلط الضوء على واحدة من أكثر القضايا حساسية في المجتمعات العربية، حيث تأخذ المستمعين إلى ما وراء جدران دار الإيواء، تلك المؤسسة التي يفترض أن تكون ملاذًا آمنًا للنساء اللاتي تعرضن للعنف من أزواجهن أو من أفراد أسرتهن.

تكشف أروى عن سلسلة من الشهادات الحية لنساء عشن في الدار أو مررن بتجربتها القاسية، إلى جانب روايات أشخاص عملوا داخلها وشاهدوا ما يدور في أروقتها المغلقة.

وبين صوت الراويات ووقع التجارب، تتشكل صورة صادمة عن الإهمال وسوء المعاملة الذي تعرضت له بعض النزيلات، حيث تتحول الدار التي أنشئت للحماية إلى مكان يحمل في طياته وجعًا جديدًا، وملاذٍ يُفترض أنه آمن لكنه أحيانًا يعيد إنتاج القهر بأشكال مختلفة.

تقول أروى في مستهل الحلقة بصوتٍ يملؤه القلق: «اليوم حلقة استثنائية من البودكاست ستكون عن دار الإيواء، وهي الدار التي تستقبل النساء المعنفات من ذويهن أو أزواجهن. يذهبن إليها ليحتمين بالمكان الذي من المفترض أن يمنحهن حياةً آدمية ويقدم لهن احتياجاتهن الأساسية من طعام ورعاية نفسية، لكن للأسف ما وصلنا من شهادات ممن أقمن بهذه الدار – سواء من طُردن أو ما زلن فيها، وحتى بعض العاملين – يكشف عن وجود سوء معاملة وإهمال. نحن اليوم نريد أن نوصل رسالة إلى المسؤولين في الدولة لينتبهوا لما يحدث هناك. في النهاية، نحن مجرد وسيلة لنقل شهادات بعض من عانين داخل هذه الدار».

الهدف من الحلقة ليس الهجوم بل فتح نافذة صوت

تبدأ أروى حديثها بتوضيح أن الهدف من الحلقة ليس الهجوم، بل فتح نافذة صوتٍ لهؤلاء النساء اللاتي لم يجدن من يسمعهن، مؤكدة أن الحلقة تسعى لأن تكون خطوة أولى نحو تحسين الأوضاع داخل دور الإيواء، وأن نقل الشهادات هو شكل من أشكال المساءلة الإنسانية.

وفي سياق الحلقة، استضافت أروى إحدى السيدات اللواتي فضّلن إخفاء هويتهن حرصًا على سلامتهن، على أمل أن تكون هذه المشاركة بداية تغيير حقيقي.

تحكي الضيفة قصتها بصوتٍ تختلط فيه المرارة بالخوف، قائلة: «منذ الصغر أتعرض للتعنيف من والدي. في إحدى المرات ضربني ضربًا مبرحًا، وحصلت على تقرير طبي، ووقّع على تعهد في قسم الشرطة، لكن دون فائدة. رفعت قضيتين من قبل، ومعي تقارير من الطب الشرعي والمستشفى، ورغم كل ذلك لم يكن لأمي أو أي أحد من العائلة دور في إيقاف هذا الضرب. وفي النهاية، بعد الضرب والحبس، لجأت إلى قسم الشرطة وقدمت شكوى».

أروى تواجه ضيفتها

وعندما سألتها أروى عن العمر الذي بدأ فيه هذا العنف، أجابت الضيفة بصوتٍ خافت:«منذ الصغر، لكن أول مرة قدمت فيها شكوى رسمية بحقه كنت في الثالثة عشرة من عمري، بعد ضرب مبرح تم إثره القبض عليه، ورفعت عليه قضية إهمال».

لكن هذه القضية، كما تروي، لم تغير شيئًا: «لم يحدث شيء بعد قضية الإهمال، فقط حوّلونا إلى دار ضيافة لفترة، ثم قررت مديرة الدار إعادتنا بعد ثلاثة أيام فقط، فعاد الحال إلى ما كان عليه من تعنيف وضرب. وقبل شهرين من الآن، توجهنا مرة أخرى إلى دار إيواء».

تتوقف أروى لتسألها عن الدار ذاتها، وعن طبيعة المكان الذي لجأت إليه، وتتنفس الضيفة بعمق وتبدأ روايتها: «في اللحظة الأولى التي دخلنا فيها دار الإيواء، أُمرنا بعدم التحدث عن أي شيء.

شعرنا أن هناك أمورًا بالفعل لا يجب الكلام عنها. بمجرد دخولنا، أحضروا لنا ورقة وأخبرونا أن علينا عدم الحديث أو التصوير أو التطرق لأي طارئ يحدث داخل الدار. قالوا إننا تحت حمايتهم، ولكن بشرط ألا نتحدث أو نخبر أحدًا بأننا هنا. طوال أربعة أيام بقينا هناك، في الخميس والجمعة والسبت، لم يتغير شيء، الموظفات كنّ موجودات، لكن حياتنا كانت متوقفة».

تتابع الضيفة في شهادتها التي تكشف تفاصيل صادمة: «ذهبنا إلى الدار من دون ملابس، رغم وجود مخزن، لكن المديرة كانت في إجازة. طوال أربعة أيام لم تتواصل معنا المديرة إطلاقًا. بقينا من دون ملابس، ومن دون فوط، والثلاجة كانت فارغة تمامًا من الطعام. كل ما أقوله موثّق بالتصوير، وهناك فتيات يشهدن».

بعد أربعة أيام من هذا التجاهل، كانت تتوقع أن تظهر المديرة لتبرر الغياب، لكن ما حدث كان صادمًا كما تروي: «ظننت أن المديرة ستأتي لتعتذر أو توضح أن الموظفات مريضات أو في الجامعة، لكن العكس تمامًا هو ما حدث. أول ما رأتني قالت: أنتِ لن تبقي هنا».

وعندما سألتها أروى عن السبب، أجابت الضيفة: «من دون أن تعرف أي شيء عن قصتي قالت إن الدار مؤقتة، وعندما سألتها أين أذهب إذا خرجت، قالت: دَبّري أمرك، فهذا مكان مؤقت لا يمكنك الإقامة فيه. حاولت أن أشرح لها ما حدث لي لكنها لم تهتم بالاستماع، وكررت فقط أن عليّ المغادرة. حتى أوامرها كانت تُلقى عليّ وهي واقفة».

المديرة وضعت شروطا ألا تتحدث أي حالة إلى أخرى

وعن ما إذا كانت هذه التجربة فردية أم عامة بين النزيلات، قالت السيدة: «كل الحالات التي التحقت بالدار سمعت الكلام نفسه وتعرضت للمعاملة ذاتها. بل إن المديرة وضعت شرطًا ألا تتحدث أي حالة مع أخرى حتى لا نعرف أن الجميع يسمعن الشيء نفسه. كانت هناك نزيلات من مختلف الأعمار، بعضهن فوق الأربعين، وبعضهن في الخمسين، وأخريات في العشرين أو أقل. الجميع قيل لهن إن شروط الإيواء لا تنطبق عليهن، تلك الشروط التي لا يعرفها أحد سوى المديرة نفسها. حتى الأخصائيات عندما سألناهن عنها لم يعرفن».

تواصل إحدى نزيلات دار الإيواء حديثها بصوتٍ يحمل مزيجًا من الغضب والخذلان، فتقول إن «العمل داخل الدار لا يسير وفق نظام واضح، بل يخضع لمزاج المديرة التي تدير المكان كما تشاء. «المديرة هي التي تقرر اليوم ما إذا كان الحارس سيفتح الباب لاستقبال الطلبات أم لا، وهي التي تأمر الخدم بالصعود إلى الطابق العلوي أو البقاء في الأسفل، فكل شيء يتحرك بأمرها، فالأخصائية المسؤولة عن خروجك إلى العمل أو المستشفى لا تتخذ أي قرار إلا بعد الاتصال بالمديرة، فهي من توافق على كل شيء، كل ما تفعلينه يعود إليها».

الأسوأ كانت انقطاعي عن عملي لفترة طويلة

ثم تروي بأسى عن أسوأ ما واجهته داخل الدار: «أسوأ الأشياء كانت انقطاعي عن عملي لفترة طويلة. عملي يبدأ في السابعة صباحًا، لكن المديرة أخبرتني أن الدوام في الدار بمواعيد مرنة، ولا يمكنها إجبار موظفة على الحضور في السابعة لإخراجي. في الدار لا يمكنك الخروج دون إذن، الوضع ليس إيواءً بل سجن».

وتوضح «هناك ثلاثة أبواب مغلقة عليكِ. أنتِ لستِ محكومة بأي تهمة، فقط معنّفة، لا يمكنكِ إيذاء نفسك ولا أحد، وكل الحالات الأخريات فوق الاحترام، لكننا جميعًا محرومات من الخروج تحت ذريعة الحماية. في نهاية الأسبوع — الخميس والجمعة والسبت — لا توجد موظفات إطلاقًا، ولو حدث مكروه داخل الدار، لن يسمح لكِ بالمغادرة حتى يوم الأحد».

وحول التعامل مع الحالات الصحية الطارئة، تجيب: «الشرطة داخل المركز متعاونون، كانوا يتصلون بالإسعاف في الحالات الطارئة، لكن حتى دخول الإسعاف لا يتم إلا بعد موافقة المديرة في مكالمة هاتفية، إذا لم توافق، فلن يدخلوا. حدث أن أصيبت فتاة برضوض جعلت يدها تتحول إلى اللون الأزرق، ومع ذلك رفضت المديرة خروجها قائلة إن الأمر بسيط».

الحبس داخل الدار خمسة أيام دون أي حكم قضائي

أما عن الخدمات الطبية، فتؤكد أن «الدار لا تضم أي عيادة داخلية، ولا حتى موظفات في بعض أوقات الدوام. أحيانًا أذهب للإدارة فلا أجد أحدًا لخمس أو ست ساعات، ومع ذلك يُحسب غيابي. وذات مرة، بعد أن حُبست داخل الدار خمسة أيام من دون أي حكم قضائي، لم أتمكن خلالها من الخروج لمتابعة قضيتي أو التوجه إلى النيابة».

وتصف ما حدث لاحقًا قائلة: «اتصلت برقم الطوارئ 112، أبلغتهم أني محتجزة، فأخبروني أنهم سيرسلون دورية تفتح المركز. لكن حين تواصلوا مع إدارة الدار، كان الرد أن من شروطهم عدم فتح الباب. وعندما سُئلوا عن هذه الشروط، لم تكن مكتوبة، فقط قرارات المديرة الشفهية».

ثم تضيف بمرارة: «خرجت من الدار بعد ضغوط متكررة. كانت المديرة تمارس علي ضغطًا حتى لا أذهب إلى عملي أو أتواصل مع محاميتي. لم يكن لي مكان آخر أذهب إليه، فقضيتي الأساسية مع أهلي الذين عنّفوني، ورغم أنني شرحت لها ذلك مرارًا لكنها لم تتقبل، وفي يوم، جاءت إليّ أربع أخصائيات وأخبرنني أن هناك قرارًا من النيابة العامة بمغادرتي. لم أرَ القرار ولم أوقّع عليه، حاولت إقناعهم بأن لا مكان لي، أني فتاة لن أستطيع العيش في الشارع أو في سيارتي، لكنهم رفضوا وأصروا على خروجي. كانت المديرة تكرر الأمر دائمًا: “غادري وتدبّري أمرك”».

إجبار النزيلات على الذهاب إلى مستشفى الطب النفسي

تواصل حديثها عن الحالات الأخريات فتقول: «المديرة كانت تجبر بعض النزيلات على الذهاب إلى مستشفى الطب النفسي، رغم أنهن لا يعانين من أي اضطرابات. أي حالة تطيل المكوث في المركز تُحال إلى الطب النفسي فقط للتخلّص منها. كانت هناك سيدة عمرها 44 عامًا قضيتها الوحيدة أن معاشها لم يُصرف بعد، وحين تأخّر نزول المعاش طلبت منها المديرة التوقيع على ورقة دخول للمستشفى النفسي، فرفضت، فطُردت من الدار في اليوم التالي».

وتروي حادثة أخرى: «إحدى الفتيات اختلفت مع المديرة، وفي اليوم التالي استدعوا لها مستشفى الطب النفسي وسُحبت من غرفتها عنوة، لكن الطبيب رفض إيداعها قائلاً إنها سليمة. وعندما عادت إلى الدار، أُسكنت لفترة قصيرة ثم طُردت مجددًا بعد تهديدها بالطب النفسي مرة أخرى، فخافت وغادرت، وظلت ثلاثة أيام في الشارع أمام قسم الشرطة. حاولت إقناعهم بإعادتها للدار لكن المديرة رفضت، رغم تدخل القسم».

الوضع في الدار أقرب إلى السجن منه إلى الإيواء الحكومي

وتصف بنبرة حاسمة: «الوضع في الدار أقرب إلى السجن منه إلى الإيواء الحكومي، فعند الدخول والخروج هناك تفتيش، وكل حركة تُسجّل بدقة. إذا أخطأتِ في تسجيل الوقت دقيقة واحدة يوقعون عليك تعهدًا. التعامل آلي، بلا إنسانية، ولا أخصائية تتجرأ على مناقشة المديرة أو الاعتراض».

ولكن البعض يظن أن الفتيات في هذه الدور يتمردن على أسرهن طلبًا للحرية تعلق أروى، ، وترد الضيفة قائلة: «أتفهم من يقول ذلك، من لم يجرب العنف داخل بيته لا يعرف، الحياة مليئة بقصص كهذه، لكن لأن الدور تتكتم على ما يحدث داخلها، يظن الناس أن كل شيء على ما يرام. رأيتُ حالات أصعب من حالتي بكثير، طُردت إلى الشارع، ثم يقال إن مشكلتها حُلّت. المديرة تقول: أنا حليت موضوعها، بينما الفتاة تنام في العراء. لو كان أحد يريد معرفة الحقيقة، فليتواصل مع المطرودات، سيرى الحقيقة بعينه».

وعن الحياة اليومية داخل الدار، تشرح: «الطعام والمطبخ مسؤولية المديرة التي تقول دائمًا: أنا أضطر لكم الأكل من الجمعية لأن الوزارة لا ترسل شيئًا. لديّ أدلة قاطعة على ذلك. وعندما طلبنا المساعدة قالوا لنا إن الأوضاع ممتازة وإن الدار لا تحتاج شيئًا، بينما في الواقع نحن بحاجة ماسّة لكل شيء. الوضع المعيشي قاسٍ، لا يمكن أن تعيشي أسبوعًا واحدًا بهذا الشكل، فكيف بشهور؟».

الأكل يعتمد على مزاج الأخصائية

وتتابع: «الأكل يعتمد على مزاج الأخصائية. إذا رغبت، تذهب إلى الجمعية لتجلب القليل من الطعام. حتى أبسط الأشياء مثل الخضار أو البصل والثوم غير متوفرة، واستخدام السكين ممنوع. المعلبات مغلقة لأنها تحتاج أداة خاصة لا يُسمح باستعمالها. البنات يعانين من فقر حديد لأنهن لا يتعرضن للشمس، لا يُسمح لهن بنشر ملابسهن خارج الغرف. الصابون نادر، والغسيل صعب، لذلك تخرج بعضهن إلى العمل أو الجامعة بملابس سيئة المظهر دون أن يعبأ أحد. لا يهمهم إن كان لديكِ عمل، فهم يخرجونك في الثامنة بينما عملي يبدأ في السابعة».

حنان العنزي وفرت لي سكنًا آمنًا وحلّت جميع مشاكلي

وتضيف بحزن: «كل هذا أثر عليّ قانونيًا وماديًا ونفسيًا. تأخرت عن قضيتي، خَسِرت عملي، حياتي كلها انقلبت منذ دخولي المركز. بعد طردي بقيت يومين في الشارع داخل السيارة، لا مأوى لي. ثم تواصلت معي الأستاذة حنان — جزاها الله خيرًا — وفرت لي سكنًا آمنًا وساعدتني  على متابعة عملي  وحل أموري كلها، وهو ما لم تستطع الدار فعله في شهور، فعلته هي في يوم واحد».

ماذا لو لم تكن هناك “حنان”؟ سألتها اروى فأجابت: «لكنت اليوم مشردة في الشارع. عشت هذا بالفعل حين طُردت من الإيواء، وأُجبرت على توقيع ورقة تفيد بخروجي بإرادتي، رغم أني لم أكن راغبة. حتى كتبت في الورقة أني ذاهبة إلى الشارع، فقالت المديرة اكتبي “الشارع”، ومكتوب فعلاً في الورقة “الشارع” لمن أراد أن يراها».

وعن الشكاوى، تقول: «أكيد اشتكينا، اتصلنا برقم البلاغات مرات كثيرة لكن دون جدوى. المديرة هي الكل في الكل. تواصلنا مع أكثر من جهة في الوزارة وحتى مع مكتب الوزيرة، لكن لم يحدث أي تغيير، ولم يتواصل معنا أحد».

وحول علم الوزارة بما يحدث قالت: «أكيد لديهم علم. سمعوا شهادات بعض الحالات وتحدثوا إليهن. الوزارة وصلها الخبر بالأدلة، أدلة قاطعة لا تحتمل الشك. لكن بدلاً من التحقيق الجدي، تم تهديدنا برفع قضية تشهير، فقط لأننا تواصلنا مع الإدارة وقلنا الحقيقة، أننا طُردنا من المركز».

تتوقف الضيفة لحظة، كأنها تستجمع ما تبقى من أنفاسها، ثم تقول بصوتٍ يخالطه الأمل رغم كل الانكسارات: «ربما أنا اليوم طلعت وساعدتني أستاذة حنان، والله عليّ، وانحلت بعض أموري، بس في بنات حتى الآن هم بالشارع، وفي بنات بالمستقبل إذا ظلت نفس المديرة في منصبها ونفس الإدارة ونفس الوضع، راح يكونون بالشارع. وهذا يعني خطرًا أكبر، ليس فقط على البنات، بل على الدولة نفسها. لأننا نخلق حالات أصعب علاجها مستقبلًا، فالمعنّفة تحتاج إلى احتواء، تحتاج إلى إيواء فعلي، إلى رقابة وتعامل إنساني، إلى تفهّم ومحاولة إصلاح ما تخرب، لا إلى الطرد للشارع. لا أقول لها: “حلّي أمورك بنفسك”. هناك فتيات طُردن من الإيواء وانتهى بهن الحال إلى إدمان المخدرات وأشياء أخرى».

ما حدث من أهلي كسرني وما حدث في الإيواء كسرني أكثر

وحين تسألها أروى إن كانت تتفق مع القول إن المطلوب هو إيواء هذه الحالات في أبسط الظروف الإنسانية، وإلا فسيحتويهم الشارع، تجيب بتأكيد: «أكيد، لأن أي بنت قابلتها هناك كانت ممكن تكون إنسانة ناجحة، واعية، تفيد المجتمع ولا تضره. لكن ما يحدث في المركز، والمديرة التي لا تحلّ موضوعات النزيلات وتعتبر وجودهن مؤقتًا، يجعل أي فتاة تفقد الأمل. إذا خرجت للشارع كم يوم، كيف ستفكر في إصلاح وضعها؟».

ثم تنتقل أروى للسؤال عن رؤيتها لمستقبلها بعد ما مرت به، وما إذا كانت التجربة كسرتها أم دفعتها للأمام، فتقول بهدوء: «ما حدث لي من أهلي كسرني، وما حدث لي في الإيواء كسرني أكثر. لكن تواصل الأستاذة حنان معي واحتواؤها لي جعلاني أعرف أني نجوت لأنني قوية، ولأن أمامي شيء أكبر سأعدّيه. عندي أمل».

تختم أروى المقابلة معها بكلمات دعم: «نتمنى أن تكوني أفضل، وما لا يكسرك يقويكِ، لا تفقدي الأمل، وإن شاء الله بعد هذه المقابلة تكونين أفضل».

فتبتسم الضيفة وتقول: «أتمنى ذلك، لأنه ليس حقي فقط، إنما حق الحالات الأخرى، لأن في كثير بنات بالكويت معنفات وينحرمون من أبسط الأمور في حياتهم. الكويت والدولة ليست مقصّرة، لكن إدارة المكان سيئة. البنات يُظلَمن، وأتمنى فعلاً أن يتدخل أحد المسؤولين».

تشكرها أروى على شجاعتها، وتختم قائلة: «شكرًا لوقتك ولحديثك في هذا البودكاست. نحن لدينا الأدلة والبراهين إذا أراد أحد المسؤولين الاطلاع عليها».

فترد الضيفة: «أشكرك على المقابلة وتسليط الضوء على المكان اللي حاولوا كثير يغطّون عليه. أدعو أي مسؤول يجي يشوف الأدلة بنفسه حتى نصل للتغيير فعلاً».

المديرة تريد طرد الحالات بأي طريقة

وبينما تُغلق الصفحة الأولى من هذه الحكاية المؤلمة، تفتح أروى صفحة أخرى، لتستقبل الضيفة الثانية التي خرجت حديثًا من الإيواء،

وتبدأ بسؤالها: «في البداية، ما سبب ذهابك إلى دار الإيواء؟».. فتجيب الشابة بصوتٍ منخفض: «بسبب تعنيف في البيت، وإساءة معاملة من أبوي وأمي. كنت ألتجئ إلى ناس معينين — أخصائيين أو محامين — ووصلوني إلى النيابة، والنيابة وصلتني إلى المكان، دار الإيواء».

تسألها أروى: «هناك من يقول إن ضرب الأهل لأبنائهم أمر عادي، هل كان ضربًا عاديًا أم ماذا؟».. فتجيب بحزم: «لا، كان ضربًا مبرحًا، وله أثر نفسي».

وحين تسألها عن فكرتها الأولى عن الدار، تقول: «كنت أعتقد أنه مكان جديد وأفضل، بداية جديدة. لكن عندما دخلنا اكتشفنا أن كل شيء ناقص تقريبًا، البنات الموجودات معنا أخبرونا عن رقم بلاغات التعنيف — رقم البلاغات المخصص — وقلن لنا إننا نستطيع الاتصال عليه إذا احتجنا شيئًا، لكننا كنا نتصل ولا أحد يرد. لا استجابة نهائيًا، وإن ردّوا، فيردّون على أشياء معينة نادرًا جدًا، وأول ما دخلنا لم تكن هناك احتياجات أساسية، دخلنا فقط بملابسنا التي نرتديها. لا فوط للاستحمام، ولا أغراض خاصة، والمخزن موجود، لكنه مقفل ومفتاحه مع الإدارة، ولم يطلبوه لنا».

تتوقف قليلًا، ثم تضيف: «المخزن فيه كل شيء، ملابس وصحون وأغراض، لكن الإدارة لم تطلبه، كانوا يحتجزون كل ذلك لأن المديرة تريد طرد الحالات بأي طريقة. لو أعطتك احتياجاتك سترتاحين وتبقى أطول، وهم لا يريدون ذلك. طوال الوقت يقولون: “أنتِ لستِ في فندق، أنتِ هنا مؤقتًا”، لكن لا يوضحون ما هي الشروط. الورقة التي وقعناها لا تحتوي إلا على قوانين عامة، من ضمنها أن الدار توفر ثلاث وجبات — صباحًا وغداءً ومساءً — لكن هذا لم يحدث أبدًا. كنا نذهب إلى المطبخ ولا نجد شيئًا».

تسألها أروى: «وما نوع الأغذية التي كانت تقدم؟» فتردّ: «معلبات، أغلبها معلبات، تعطي منظرًا أن الثلاجة مليئة، لكنها ليست كذلك، حيث تأتي الأخصائية ببعض الخضروات — مثل الطماطم — وتضعها في الثلاجة لتبدو ممتلئة، لكننا لا نستطيع استخدامها. فهمونا أن هناك وجبات تُقسّم خلال اليوم، لكننا لم نرَ شيئًا. ما تجدينه هو ما تطبخينه، وهذا كل شيء».

أروى: «أنتِ طالبة بالجامعة، هل المعاملة بدار الإيواء أثرت على دراستك؟» تجيب الضيفة: «حاولت بقدر المستطاع الفصل بين الأمرين، وعندما أكون خارج الإيواء أنسى المكان، أحاول الدراسة بشكل طبيعي، حالي حال الطلبة، لكن ظل الإيواء يدخل في يومي. فأنا أنتظر سائق الإيواء أو هو ينتظرني، ومرات يتأخر ومرات يأخرني، فكان كل شيء مرتبط بالمكان السيئ لكني مضطرة لأن أرجع وأحاول أنام، على الأقل»

الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين لا يقدمون  أي مساعدة أو توجيه

تتابع أروى الحوار محاولة فهم الظروف المعيشية:: «كم عددكم في الغرفة داخل الإيواء؟». فترد الشابة: «بالغرفة حسب الحالات، كثيرة أو حسب التوزيعة»

تسألها أروى بدهشة: «رأينا غرفة فيها ستة أسرّة؟» فتؤكد الضيفة: «نعم، إذا تكدست الحالات مستحيل هي تبادر من نفسها وتفتح غرفة زيادة. وحتى في حالة كانت متكسرة، يعني على كرسي متحرك، وضعتها في غرفة صغيرة. كنت أُصدم كيف تعيش فيها وهي صغيرة لهذا الحد. فبعد أسبوعين أو ثلاثة، وهي على كرسي متحرك، العاملات لا يخدمنها، يقولون نحن ننتظر الباص ولا نستطيع خدمتك، حتى الاستحمام كانت تعجز عنه بنفسها أو تروح دورة المياه، تحتاج العاملات يكونون معها لكن لم يكن أيٌّ من هذا موجود. وحتى الطعام كان ينقصها، ولا يستطيع أحد المساعدة، لا أحد يقدر يساعد لأنها أصلًا لا يوجد طعام مناسب لها.»

تتدخل أروى بسؤال جديد: «هل من تمتلك أموال تستطيع شراء طعام وإدخاله للدار؟».. فترد الشابة بحذر: «من لديها أموال تطلب طعام، لكن تصير تعقيدات على ما يوصل الطلب. مثلاً إذا طلبتِ شيئًا من فلوسك، الحارس لا يسلمه لك إلا بناء على تعليمات المديرة، ويفتش الطلب من تلقاء نفسه من دون أن يطلب منه أحد، مع أن هذه مهمة الشرطيات. يفتشه ويصوره لها، وهي توافق يدخل أو لا. حتى لو كان أكلًا. كل هذا بغرض دفع النزيلات للخروج من الدار»

تبدو الدهشة واضحة على ملامح أروى، فتسألها مجددًا: «هل تلقيتُنّ أي دعم نفسي بالمركز بدار الإيواء؟»

تتنهد الضيفة قبل أن تجيب بصوت خافت: «الصراحة الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين ما قدموا لنا أي مساعدة أو أي توجيه نفسي، واللي فهمناه أصلاً، كان عندنا كلنا كحالات هاجس أن أي واحدة تذهب إلى أخصائية أو تقول لها أي معلومة سوف تُحال إلى الطب النفسي. لا تستطيعين قول أبسط الأشياء التي تحسين بها. أنتِ كحالة بالإيواء، بغض النظر عن حياتك بالخارج، كان أي كلمة محسوبة علينا، فكان بالنسبة لنا هاجس، لا نستطيع فتح قلوبنا، والأخصائيات ما كانوا متعاونين أبدًا، كانت مهمتهم أوراق الخروج المؤقت، وما توصيهم به المديرة، وأننا غير مستوفين وسنُطرَد وهكذا. وإذا قلتي أنا تنقصني احتياجات، فوطة أو فراش، لا تقول إلا: انتظري غدًا. فما كانت توفر أو تقدم لنا شيء.»

تواصل أروى حديثها الإنساني قائلة:: «ما هي احتياجاتك وأنتِ امرأة مُعنّفة؟ ما الذي كنتِ تتوقعينه؟».. فتقول الضيفة بنبرة يغلبها الانكسار: «مكان آمن بعيد عن البيئة التي كنتُ فيها، وبعد دخولي دار الإيواء شعرت أني خرجت من تعنيف وتدمير نفسي إلى تدمير زيادة، فكنت أحاول الاستقرار والتركيز على دراستي، لكنهم لم يعطوني مجالًا، لأنهم باستمرار يقولون لنا: لا تبعثوا على الاستقرار، مرة ستُطرَدون ومرة سوف تخرجون، حاليًا ابحثوا عن أماكن أخرى. رغم أننا نقول إننا لا نملك شيئًا من هذا، لا أموال ولا مكان.»

تسأل أروى «من وجهة نظرك كواحدة نزلتِ بالإيواء مدة وخرجتِ، كيف نستطيع أن نغيّر هذا المكان ليكون آمنًا ويستقبل المعنفات بطريقة تشعرهن بالأمان؟ ما هي اقتراحاتك؟»

فترد الشابة: «أعتقد أن المسؤولة لازم تكون إنسانة قبل منصبها، والأخصائيات يسمعون لنا، لا يحكمون علينا. لا يكون هناك شيء ضدنا، خصوصًا أن الخصم هو الحكم. فالتقارير التي يكتبونها كإدارة، إدارة مراكز الحماية، هي التي تُعتمد. إذا أرادت المديرة إخراج حالة معينة فتستطيع إحالتها بسهولة إلى الطب النفسي، أو تجبرها على التوقيع على الخروج.»

تسألها أروى أخيرًا بنبرة جادة:: «هل هناك حالات أُجبرت على الذهاب للمستشفى النفسي لتتحمل وزارة الصحة مسؤولية الحالة؟»

فتؤكد الشابة قائلة: «بالضبط، حتى يتحمل شخص أو جهة غيرهم المسؤولية. أنا كنت شاهدة على حالة، وحالة قبلها بيومين أرسلوها للطب النفسي بحجج غير منطقية، لأن المديرة في اليوم الذي قبله كان اشتد الحوار بينها وبين الحالة، وفي اليوم الثاني أرسلتها إلى الطب النفسي. هناك استلموها أعتقد رجال شرطة ومسعفين، لا أعرف بالضبط، لكنها جمعت عددًا كبيرًا من الناس يكفي أنه يرهبها كحالة، وقبل الذهاب كانت تبكي وتقول إنها لا تريد الذهاب للطب النفسي، وهذا ليس مكاني، ولست مريضة. وتقريبًا خلال ساعتين، أنا كنت بالمركز، خلال ساعتين رجعت، والدكتور قال إنها ليست مريضة. ونقلًا عن لسانها قالت إن الدكتور قال لها إنها ليست مريضة بأي شيء، والادعاء أصلاً غير منطقي. ورجعت، لكن بعد ما انهارت وتعبت نفسيتها. وكانت تتعمد المديرة تقول أمامنا: فلانة ستذهب للطب النفسي وفلانة للمكان الفلاني. لا يهمها إذا تأخرتِ عن عملك أو محاضرتك، فكانت تتعمد التركيز على هذه الكلمة حتى نفهم أنه ممكن هذا يكون مصيرنا فيما بعد»

كانوا يضغطون علينا باستمرار أن نذهب إلى مكان آخر غير الإيواء

سألتها أروى عن انعكاس تلك التجربة على دراستها الجامعية قائلة: «أعرف أنك كنتِ مجتهدة في دراستك بالجامعة، هل تسببت الدار لك في مشكلة غياب؟»

أجابت الفتاة بصوتٍ متعب لكنه ثابت: «بالتأكيد، كانت في بعض الأيام تقرر المديرة أنه لن نخرج، لن يخرج أحد، وتقول إنكم لا بد أن تخرجوا خروجًا نهائيًا، ليس مؤقتًا لمحاضراتكم أو لاحتياجات أساسية، فكان هذا يوقف يومنا بالكامل، ولو كان يوم خميس وراء جمعة وسبت، فلن تخرجين نهائيًا. لذا تسببت في إنذارات غياب لي»..

سألتها أروى عن رؤيتها لمستقبلها بعد الخروج من الدار وهي لا تعرف ما سيحدث، فأجابت بحذرٍ وصدق: «أنا أحرص أن أكون في وضعٍ أفضل مما مررت به، وألا يؤثر عليّ ما مررت به. لكني لا زلت أفكر في حالات غيري، من سوف يدخلن الدار أو من هن الآن داخلها، وكيف سيتضررن وهن لا يستطعن إنقاذ أنفسهن مثلما فعلت أنا، بعضهن لم يذهبن إلى الجامعة بسبب الغياب، أو استسلمن لهذه النهاية، ولم يُصررن على الدراسة، وهناك من فُصلت أو انسحب قيدها أو توقف، فهذا مصيرهن. وأنا أتمنى أن يكون المكان أفضل لهن وللحالات القادمة».

سألتها أروى بصوتٍ خافت: «هل في أحد من أهلك حاولتِ تلجئين له قبل الذهاب إلى هذه الدار أو بعدها؟ هل تواصلتِ مع أحد لطلب المساعدة؟»

ردت الشابة بأسى واضح: «كانوا يضغطون علينا باستمرار أن نذهب إلى مكان آخر غير الإيواء، مكان يحتوينا ونلجأ إليه. لكن كل من تواصلنا معهم لم يستطيعوا تقديم المساعدة، وحتى لم يكن من حل أو صلح بيننا وبين أهالينا من قبل الإدارة، التي لم تهتم إلا بإخراجنا دون أن تضمن حقنا أو المكان الذي سنلجأ إليه. لم يهتموا إن كنا نعيش بأمان مرة ثانية».

توجهت أروى بسؤال لتختم هذه الشهادة المؤلمة: «ما هي رسالتك اليوم التي تريدين إيصالها للمسؤولين؟ وما الطريقة التي يساعدونكم بها؟».. لتقول الشابة بلهجةٍ قاطعة: «أريد أن أقول إن التغيير سيكون أسهل من ترك الأمور مهملة، وأن يكون التغيير تدريجيًا، والأهم أن يولوا إدارة هذه الأمور لمن بيدهم الحل والعقد أن يكونوا رحماء، ويشعرون بغيرهم، ولديهم خبرة بهذه الحالات»

حنان العنزي: فكرة الإيواء حلم وُلد ميتًا

انتقلت الحلقة بعدها إلى صوتٍ قدمتها أروى قائلة: «الآن مع حنان العنزي، مساء الخير أستاذة حنان. نريدك في البداية أن تعرفي نفسك» فأجابت بنبرةٍ واثقة: «أختك حنان العنزي، ناشطة في العمل الإنساني منذ عام 2012. أحب العمل الخيري، بدأت مع مجموعة نساء كنا فريقًا تطوعيًا، ومن ثم تقلدت بعض المناصب، مثل رئيسة اللجنة النسائية في جمعية التميز الإنساني، ومديرة إدارة مركز بلسم لمناهضة العنف الأسري في جمعية التنمية الخيرية، ومتعاونة مع كل الجمعيات الخيرية في مشاريع مختلفة، كما أنني صاحبة شركة جسور للخدمات الاستشارية المختصة بخدمات ذوي الإعاقة، وهي شركة غير ربحية، وصاحبة أول منصة كويتية في العالم مختصة بأخبار ومبادرات تدعم وتمكّن ذوي الإعاقة، والحمد لله».

علّقت أروى بإعجاب: «ما شاء الله، سيرة ذاتية يفتخر بها أي شخص، وشيء مشرف، وبما أن موضوعنا اليوم دار الإيواء، هل يمكن أن تحكي لنا، خاصة وأن إحدى الحالات ذكرت أنك ساعدتِ في حل موضوعات كثيرة. كيف ولماذا؟»

حنان العنزي

ابتسمت حنان قليلًا قبل أن تقول بحزمٍ واضح: «دعيني أختصر موضوع الإيواء بكلمة أو بجملة: فكرة الإيواء حلم وُلد ميتًا. من الآخر، حلم وُلد ميتًا، قبل عام 2016، توجهنا نحن ومجموعة من السيدات الناشطات في قضايا العنف الأسري، وكان في السنة تمر علينا حالتان أو ثلاث بالكثير. لم تكن الظاهرة منتشرة في الكويت، وأنا لا ألوم الشارع عندما يقول إنه لا توجد هذه الظاهرة، لأننا مجتمع محافظ نعالج من الداخل. هذا دورنا كمجتمع مدني».

«توجهنا وقتها إلى الوزيرة هند الصبيح، وتحدثنا معها عن الموضوع، وتحركت بسرعة لإنشاء أول مركز إيواء للعنف الأسري، وكان في منطقة بعيدة، الكل يعرف أن مركز الإيواء الوحيد لدينا في الكويت هو مركز فنر في الأحمدي، وهو موجود منذ عام 2016»

تقاطعتها أروى بسؤالٍ مباشر: «لكن لماذا لم يسمع أحد بهذا المركز؟» وردت حنان بوضوح: «لأن الهدف من إنشاء المركز لم يكن الإعلان عنه بقدر ما كان حماية الفتيات ومساعدتهن على النجاة من العنف الأسري. نحن نتحدث من 2016 إلى اليوم 2025، أين وصلنا في المركز؟ ما هي إنجازاته؟ وما هي مخرجاته؟

كلما جاء مسؤول جديد قلنا بسم الله الرحمن الرحيم وتفاءلنا خيرًا. قدمنا التقارير، والأهداف، والرؤى، وحضرنا المؤتمرات حتى مللنا من الكتابة والتكرار. اليوم لدينا عدد مهول من ضحايا العنف الأسري، وهذه ليست أرقامنا نحن، بل أرقام من النيابة والشرطة المجتمعية والمستشفيات. هذه أرقام حقيقية تضرب بشكل مباشر تصنيفنا العالمي في دعم وتمكين المرأة والعمل الإنساني.”

وأضافت: «أنا كمواطنة كويتية غيورة على هذا البلد، لن أقبل أن تكون هناك فتاة كويتية أو غير كويتية معنفة تُلقى في الشارع. نحن بلد يصل خيره إلى أقاصي الأرض، فكيف لا نرعى بناتنا؟ يجب أن نكون جزءًا من الحل، لا شهودًا على الألم».

وتواصل حنان: «في فترة من الفترات كانت الإدارة متعاونة معنا في مركز الإيواء، وأخص بالذكر فوزية الملحم التي كانت تتولى الإدارة. كانت تتواصل معنا مباشرة، وتسمح لنا بإيصال المساعدات. في تلك الفترة لم يشتكِ أحد. كنا نوصل الأجهزة الكهربائية والملابس والأدوات الشخصية والطعام وحتى الماء، وكانت ترد علينا بخطابات شكر. هذا هو دور المجتمع المدني الحقيقي».

ثم تتابع بصوتٍ متسائل: «لكن ما لا أفهمه أن المركز الحكومي يقول إنه لا يملك ميزانية! كيف لمركز تابع لوزارة قوية ومجلس أعلى للأسرة لا يملك ميزانية للصرف؟ البنات في الداخل يؤكدن أن الدار تقول لهن نحن ننتظر أن يأتي طعامكم! وإذا كان هناك متبرعون جاهزون للمساعدة، فلماذا لا يُسمح لهم؟ هذا السؤال الذي لم أجد له إجابة حتى اليوم».

وتواصل: «نحن كمجموعة من الأفراد نعمل بمجهود شخصي تمامًا. بعض الأسر المعنفة نساعدها من أموال زكاتنا الخاصة، ونوفر السكن والغذاء والعلاج النفسي. هذا عمل دولة نقوم به كأفراد. لذلك أتمنى أن تكون هناك رؤية واضحة وصريحة لإدارة مركز الإيواء بالشكل السليم، لأن إدارته من جهة واحدة هو في رأيي أكبر خطأ».

لماذا يطلبون بروتوكولًا في هذا المشروع؟

أروى: ما هي اقتراحاتك لتحسين هذا الوضع؟.. تقول حنان العنزي: «أنا قدمت تصورًا إلى جهة مانحة كبيرة في الكويت، جهة التبرعات التي تدعم أكبر المشاريع الخيرية داخل وخارج الكويت، وبصراحة وافقت على المشروع، لكني إلى اليوم لا أفهم الشرط الذي وضعوه. قالوا: نعطيك دعمًا، وكان الدعم كبيرًا، لكن بشرط وجود بروتوكول تعاون بينك وبين وزارة الشؤون».

وتابعت: لا أدري، هو من المضحك المبكي. فمثلًا لو أردت إقامة مشروع إفطار صائم، وأنا مرخصة من الشؤون، أذهب لتلك الجهة وأقول أريد إقامة مشروع إفطار صائم، فهل تشترط علي بروتوكولًا؟.. لا، أنتِ مرخصة، عندك ترخيص تحت مظلة الشؤون، فلماذا يطلبون بروتوكولًا في هذا المشروع؟ لا أدري. ذهبنا إلى وزارة الشؤون نحاول في هذا البروتوكول منذ ثلاث سنوات».

واوضحت: «الفكرة من هذا البروتوكول أن الجهة التي ستقدم الدعم المالي فقط لا تتدخل في الإدارة، لا تتدخل في التفاصيل، لكنها تشرف على صرف الأموال في مصارفها الصحيحة، أي يكون لدى البنات طعام صالح للأكل، وإذا كان المركز يحتاج ترميمات نرمم، وإذا أرادوا أثاثًا نؤثث، وإذا احتاجوا رواتب لمعالجين ندفع. أنا أعطيكم ميزانية على طبق من ذهب، خذوها، فلماذا ترفضون التعاون؟ أنا لم أقل سأنشئ مركز إيواء وأُباوي البنات وأُهمّشكم، لا، أنا جزء مساند لكم، فلماذا لا تسمحون لي أن أساعدكم؟»

تسألها أروى: ما الذي تتوقعينه عن أسباب الرفض؟.. وتجيب حنان: «أنا تعبت أفهم والله، طرقت كل الأبواب. فمركز الإيواء ليكون ناجحًا، الرؤية الحقيقية التي أراها من خلال خبرتي، لابد أن يكون هناك شق للداخلية، أن تكون هناك نقطة أمن ثابتة عند الباب».

«مركز الإيواء بينه وبين الكراجات شارع، فلك أن تتخيلي هذا، وفي الليل الأصوات والناس التي ممكن أن ترتاد هذا المكان، وليس فيه سوى رجل أمن وحيد من شركة خاصة يقف عند الأسانسير للدور الأرضي فقط، ليس أمنًا حتى. لازم يكون في رقابة من الداخلية، لازم يكون في مكتب للرعاية الصحية، تعبت واحدة بالليل أو مرضت، ليس فقط رعاية صحية، أريد التركيز على نقطة أكثر أهمية، وهي الفحص الدوري بدون سابق إنذار على العاملين بالمركز، عن أي نوع مخدرات أو تعاطٍ».

تواصل حنان: «هناك بنات من المعنفات موجودات ولديهن هذه الأشياء، فبعد التعنيف خرجن إلى الشارع، ثم وجدن مركز الإيواء، لذا لازم يكون في فحص، لازم يكون في رعاية. كانت وزارة الداخلية تقاتل على هذه الآفة الموجودة في المجتمع، والآن يكاد لا يخلو بيت – اللهم اكفنا الشر وإياكم – من هذه الآفة. فهؤلاء البنات أولى بالحماية، وأولى بالرقابة، ليس فقط على البنات، بل على من يعملون بالمكان، كل من يعمل وكل من يرتاد هذا المكان لابد أن يتم فحص دوري لهم. إذًا نحن نحتاج إلى رعاية صحية، ونحتاج إلى مراقبة من الداخلية، ونحتاج إلى تدخل من وزارة الأوقاف».

وتضيف: «أيضًا هناك مركز للاستماع، مركز عجيب ودوره كبير وفعال، فلماذا لم يتم التعاقد معه؟ أنتم لا تريدون طرفًا من الخارج يدخل. ها أنا أعطيتكم السيناريو كاملًا لتستعينوا بأحد من الخارج، أنشئوا حلقة وصل بينكم وبين كل القطاعات الحكومية».

واثقة أن شيوخنا والقياديين لن يرضوا أن تُلقى بناتهم في الشارع

تسألها أروى من جديد: ما هو مركز الاستماع هذا؟، وترد حنان: «مركز الاستماع هو مركز تحت إدارة وزارة الأوقاف بالتعاون مع الأمانة العامة للوقف، هناك رقم تتصلين عليه إذا كانت لديك مشكلة أو تعانين من شيء، تتصلين وهم يوفرون لك أخصائيين اجتماعيين، يعطونك النصح والإرشاد، وحتى إن أردتِ مقابلتهم يوفرون لكِ مقابلة. فهذه هي الدولة، الدولة لم تألُ جهدًا».

«نحن في بلد خير وعز، وأنا أتوقع لو تم التركيز على هذا الموضوع ومعرفة أبعاده، فالموضوع سينال اهتمامًا قويًا، لأن ما من أب في الدنيا يرضى أن تُلقى بناته في الشارع، وأنا واثقة أن شيوخنا والقياديين لن يرضوا أن تُلقى بناتهم في الشارع، فخيرهم واصل إلى أقاصي الأرض، فلا يصح أن تُلقى بناتنا في الشارع، وغير مسموح لأحد أن يقول لهن انتهى إيواؤكن».

وتقول: «على أي أساس حددتم هذه المدة الزمنية؟ أنا لا أعرف. فنحن محتاجون إلى الداخلية، ومحتاجون إلى الصحة، ومحتاجون إلى الأوقاف، ومحتاجون إلى وزارة التربية».

وتقول أروى بدورها: «وأضم صوتي إليكِ، نحتاج جهة توظفهن حتى يوفين بمصروفاتهن حتى لو عملن بدوام جزئي»

تقول رئيسة مجلس إدارة مؤسسة جسور: «أشكر القطاع الخاص وأرفع له القبعة، لأن بعض البرامِجيات من العنف، ممن تعبنا عليهن وتعافين من العنف الأسري، عندما كنا نبلغ بعض أهل الخير – وأرجع وأقول لكِ بلدي مليئة بالخير – كانوا يتسابقون على توظيفهن، ويتأثر تعاملهم معهن، ويعطونهن أوقاتًا تتناسب مع دراساتهن وأعمالهن. والبنات في برنامجنا، آخر دفعة منهن من المتفوقات في الجامعة، وتقول إنها تعمل بدوام جزئي حتى لا تزيد علينا التكاليف. ونحن نحاول بكافة الطرق أن نوفر لهن كل المصروفات، سواء المواصلات للجامعات، وهي ليست تكلفة بسيطة، فإن كان لديك ابن واحد تحتارين في أكله ولبسه ومواصلاته، فما بالك بفتيات في الجامعة، كل واحدة في صف وجامعة وتخصص مختلف، ورغم هذا مستحيل، وهذه كلمة قلتها لأحد المقربين مني عندما سألني لماذا أفعل هذا، قلت: حتى لو اقتطعت من مصروفات أبنائي، لن أترك بنات بلدي يُلقين في الشارع، لن أستطيع».

تسألها أروى: لماذا بهذا القدر تشعرين بالألم عندما تتحدثين عن هؤلاء الفتيات؟

حنان: «هناك قصص لن أستطيع قولها لأنها تبكيني. هناك بنات ضاعوا بمجرد إلقائهن في الشارع، وهناك فتيات لم نستطع الوصول إليهن. كويتيات خرجن خارج البلاد وقالوا إنهم لم يجدوا الأمان في الكويت، وهذا شيء مؤلم للغاية، فكيف لم يجدوا الحماية في بلد خيرها موجود؟ هناك قصص لا أستطيع ذكرها، أكيد ستظهر فيما بعد، لكن لا يحق لي قولها، فأنا مؤتمنة عليها، وأقسمت أن البنات هؤلاء بناتي، وفيهن من هن في مثل عمري وينادينني “أمي”. أنا وبقية الفريق، وعلى رأس الهرم حبيبتي وأختي وصديقتي عذراء الرفاعي المحامية التي سخّرت مكتبها للترافع عن المعنفات وتأخذ من وقتها وجهدها منذ 2012، ربما هي من دلتني على المعنفات، فهي مكرسة نفسها لهن. أيضًا الدكتورة أمار بهبهاني ما قصرت، أختي مشاعل شويحان وغيرهن الكثير من الأخوات ممن يقفن مع المعنفات كأمهات وأخوات».

تضيف: «وأنا أشكرك أشكرك أروى، لولا وجودك وحزمك وجرأتك ما تكلم أحد، ومن خلالك أريد قول كلمة: هناك الكثير من النساء في الكويت متقلدات بعض المناصب ويتحدثن عن تمكين المرأة، تحدثت إليهن هاتفيًا واحدة واحدة، وقلت: هذه فتاة أخذتها من المسجد، وهذه أخذتها من مستشفى الطب النفسي، وأنتم لسنين تصدحون بالحديث عن المرأة، لكن لم يسأل أحد عن هؤلاء. أناشد هؤلاء بمساعدة البنات، فمثلًا عندنا عجز في المأكل والكسوة، فساعدونا بزكاتكم، لكنهم اختفوا. وهؤلاء لا أسمح لهن بالحديث عن المرأة في أي مكان أتواجد فيه، لأني لا أراهن. فالموضوع ليس حديث امرأة عن امرأة، لكن بالنسبة لي كحنان، غير أن المرأة هي الكويت، ولن أسمح لأحد أن يضرب مصنفات الكويت في العمل الإنساني، فالكويت رائدة».

وتختم حديثها: «أريد أن أقول، رغم كل التعقيدات والبيروقراطية، لا تزال أيدينا ممدودة، نحن متطوعون لا نريد أموالًا من أحد، حتى لو أردتمونا نعمل، سنعمل ليل نهار، ولو أردتم خبرتنا فخذوها، المهم نساعد البنات. استمتعوا بالمناصب، لكن اتركونا نساعد الفتيات، لا تطردوهن إلى الشوارع. أريد أن أقول كلمة، والله العظيم أنا لا أبرئكم الذمة، كل مسؤول، كل من يسمع، وكل صاحب قرار، أنا لا أبرئكم الذمة، وأنا خصيمتكم يوم القيامة في كل بنت تأذت، في كل بنت خافت، في كل بنت حست بالجوع، في كل بنت ارتهبت من كلمة أو نظرة سواء داخل المركز أو خارجه، أنا خصيمتكم يوم القيامة فيهم».

وتوجه العنزي كلمتها الأخيرة: «أقول كلمة لبناتي حبيباتي المعنفات، لستن وحدكن، الكويت كلها معكن، وأنا أعدكن وعدًا: ما دام فيّ نفس يصعد وينزل، والله العظيم لن أضطركن لاحتياج شيء، ومتاكدة مثلما أنا موجودة، عندنا ولاة أمر لن يسمحوا بما يحدث، ليس أنتن فقط، بل كل من سكن على أرض هذه البلد، وهذه المسألة أنا متأكدة أنها ستنتهي على خير، في النهاية نحن أبناء هذا البلد، وهذا واجبنا».

 

 

المقالة السابقة
إرادة تتحدى الإعاقة.. طالب فلسطيني يتسلم شهادة البكالوريوس من جامعة النجاح بمنزله

وسوم

الإعاقة (3) الاستدامة (33) التحالف الدولي للإعاقة (34) التربية الخاصة (2) التشريعات الوطنية (33) التعاون العربي (33) التعليم (4) التعليم الدامج (4) التنمية الاجتماعية (33) التنمية المستدامة (3) التوظيف الدامج (32) الدمج الاجتماعي (31) الدمج الجامعي (3) العدالة الاجتماعية (3) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (31) الكويت (5) المتحف المصري الكبير (4) المجتمع المدني (31) المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (4) الوقائع الإخباري (2) تكافؤ الفرص (32) تمكين (2) تمكين المرأة (2) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (31) حقوق الإنسان (3) حقوق ذوي الإعاقة (3) دليل الكويت للإعاقة 2025 (30) ذوو الإعاقة (12) ذوو الاحتياجات الخاصة. (31) ذوو الهمم (2) ذوي الإعاقة (9) ذوي الهمم (5) ريادة الأعمال (33) سياسات الدمج (33) شركاء لتوظيفهم (34) قمة الدوحة 2025 (35) كود البناء (36) لغة الإشارة (2) مؤتمر الأمم المتحدة (36) مبادرة تمكين (3) مجتمع شامل (36) مدرب لغة الإشارة (37) مصر (12) منظمة الصحة العالمية (37) وزارة الشؤون الاجتماعية (2)