رمد صديدي وكحل شعبي.. كيف فقد «عميد الأدب العربي» بصره؟

في قرية صغيرة تسمى عِزبة الكيلو، بمحافظة المنيا في صعيد مصر، ولد طه حسين عام 1889 لعائلة بسيطة، لم تكن تتوقع أن ابنها السابع، سيصبح أحد أعظم الأدباء في التاريخ العربي الحديث.

لم الطفل طه قد تجاوز عامه الثالث، حتى أصيب برمد في عينيه، عولج باستخدام أساليب بدائية، غالبًا باستخدام مادة كيماوية حارقة مثل نترات الفضة أو الكحل الشعبي، على يد حلاق الصحة، مما أدى إلى تلف في العينين بشكل غير قابل للعلاج، حتى فقد بصره تماما.

ويرجح أن ما حدث في عيني طه حسين هو، إما تلف في القرنية أو ضرر مباشر للعصب البصري، لكن بعد وفاته كان الطب قد تقدم بشكل ملحوظ، فرجّح الأطباء أنه فقد بصره نتيجة الرمد الصديدي، الذي كان يمكن علاجه بسهولة لو تلقى رعاية صحية مناسبة.

الرمد الصديدي وأعراضه

الرمد الصديدي هو نوع من إلتهاب ملتحمة العين (Conjunctivitis) يتميز بوجود إفرازات صديدية، وغالبًا ما يكون ناتجًا عن عدوى بكتيرية حادة، وأحيانًا فيروسية، ومسبباته هي بكتيريا المكورات البنية (Gonococcus) المسببة للسيلان، وبكتيريا الكلاميديا (Chlamydia trachomatis) التي تسبب الرمد الحبيبي، وبكتيريا أخرى مثل Staphylococcus aureus و Streptococcus pneumoniae.

ومن أهم أعراض الرمد الصديدي، إحمرار شديد في العين، تورم الجفون، ألم وحرقان، خروج صديد كثيف من العين، وصعوبة في فتح العين خاصة بعد النوم بسبب التصاق الجفون.

وفي الحالات الشديدة، يحدث تلف القرنية وتقرحات تؤدي إلى فقدان البصر، وبسبب طريقة العلاج البدائية تحول طه حسين إلى كفيف، ودخل وهو في عمر الزهور في صراع مبكر مع ظلام سيعيش فيه بقية حياته.

فقد الطفل طه حسين بصره، لكن نور عقله أضاء له طريقا فسيحا، وظهر تعلقه المبكر بالعلم، عندما أصر والده على إلحاقه بكتاب القرية، فحفظ القرىن الكريم كاملا وهو في سن مبكرة.

علامات النبوغ والتميز والذكاء والفصاحة ظهرت على الطفل الكفيف للجميع، خصوصا والده، وعندما بلغ سن الدراسة، أُرسله إلى القاهرة ليكمل دراسته في الأزهر.

لم يستمر طه حسين في الأزهر، وقرر الانضمام إلى الجامعة المصرية الحديثة، وفي الجامعة، ظهر تأثره بالنهضة الفكرية والثقافية ، فسافر إلى العاصمة الفرنسية باريس ليُكمل دراسته، وفي عام 1919 حصل طه حسين على  درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، عن أطروحته في الشعر الجاهلي، والتي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والدينية حين عاد بها إلى مصر.

طه حسين لم يكن مجرد كاتب، كان مفكرًا تنويريًا، تحدى الجمود الفكري السائد في تلك الفترة، وساهم بشكل جدي في تجديد الفكر العربي، لينال عن جدارة لقب عميد الأدب العربي، لأنه أعاد تشكيل مفاهيم الكتابة والنقد والتعليم، وكان أول من دعا إلى مجانية التعليم في مصر، وقال عبارته الشهيرة “التعليم كالماء والهواء”.

أشهر مؤلفات طه حسين

• “الأيام”: سيرة ذاتية مؤثرة كتبها في ثلاثة أجزاء.
• “في الشعر الجاهلي”: دراسة نقدية جريئة.
• “دعاء الكروان”: رواية تم تحويلها لاحقًا إلى فيلم شهير.
• “الوعد الحق”: عمل فكري يتناول قضايا دينية وفلسفية.
• “المعذبون في الأرض”: نقد اجتماعي لواقع الفقر والحرمان.

رغم إعاقته، عاش طه حسين حياة حافلة بالإنجازات،  تزوج من فتاة فرنسية اسمها سوزان بريسو،  كانت له سندًا وداعمًا، قيل عن سوزان أنها عيناه التي يرى بها العالم.

توفي طه حسين في 28 أكتوبر 1973، بعد حياة زاخرة بالكفاح والإبداع والتنوير الذي أضاء به عقول أجيال في مصر والعالم العربي، وقبل إرثه الثقافي والأدبي، ترك رسالة ملهمة للأجيال القادمة في مصر والعالم، مفادها أن الإعاقة لا تنقص العزيمة، ولا تكل منها الإرادة، وأن الموهبة لا تحدها حدود، حتى وإن أظلم العالم من حولك.