كان يرى عالما آخر، مشاعر أخرى ووقع مختلف للألوان، وتعرجات خطتها فرشاته لم تفهم وقتها، لكن عقب رحيله الدراماتيكي أدرك العالم أنه أمام رجل استثنائي، راوغ اعاقته باحترافية شديدة.
هو الرسام الهولندي فينيست فان جوخ، الذي ولد في 30 مارس 1853 في قرية زوندرت بجنوب هولندا، كانت عائلته بسيطة، والده قسًا بروتستانتيًا، وأمه تهوى الرسم، ويبدو أنه ورث عنها تلك الموهبة.
عانى فان جوخ من ضعف بصري شديد منذ طفولته، تطور مستقبلا إلى شبه عمى جزئي في سنواته الأخيرة، نتيجة اضطرابات عصبية ونفسية معقدة.
بعض الأطباء اليوم فسروا حالة الفنان الهولندي بالصرع البصري، وهي حالات تؤدي إلى تشوش الرؤية أو فقدانها جزئيًا، وراح البعض يربط بين هذا التشخيص الطبي والخطوط المتعرجة وضربات الفرشاة والألوان المتوهجة وغير الواقعية في أعماله.
فان جوخ قاوم ظروفه الصحية، ولم يستسلم لحالة التشويش البصري، واعتبر الألوان والفرشاة لغة يستطيع من خلالها من خلالها التعبير عن ذاته.
فشل فان جوخ في دراسته الدينية، وكذلك طرده من العمل كمبشر في بلجيكا، كانت عوامل دافعه لاكتشاف موهبته في وقته متأخر، الروايات تؤكد أنه اكتشف موهبته في سن السابعة والعشرين، دفعه اليأس ليمسك بالفرشاة، ليكتب فصلا جديدا في تاريخ الفن والإبداع، يخلد اسمه كرسام لن يتكرر.
كيف يرى الكفيف بالألوان
علماء النفس يفسرون قدرة شخص فاقد للبصر على الرسم بدقة وإبداع وتفرد بما اسموه بالرؤية الذهنية، وهي قدرة الدماغ على تخزين صور حسية وتحويلها إلى مشاعر بصرية داخلية، وهنا تكمن موهبة وعبقرية الرجل الذي أخرج جسده وعينه من المعادلة وراهن على دماغه ويده.
الأشخاص الذين يفقدون بصرهم لاحقًا غالبًا ما يحتفظون بذاكرة بصرية حية، وهذا ما مكّن فان جوخ من التعبير عن العالم كما يشعره لا كما يراه.
طبيب الأعصاب الفرنسي بول غاشيه، الذي عالج فان جوخ في سنواته الأخيرة، أشار إلى أن الفنان كان يعاني من نوبات هلوسة بصرية، وقد تكون هذه إحدى مصادر إلهامه، كانت الألوان في لوحاته انعكاسًا لحالته النفسية، وليس لمشهد واقعي.
رغم مرور قرابة 135 سنة على وفاته لكن لا توجد مصادر طبية أو وثائق تاريخية يتدعم رواية أن بصره كان ضعيفًا جدًا لدرجة شبه العمى منذ الصغر، وأن الأمر مجرد تضخيم لفكرة الاضطرابات البصرية والنفسية التي ظهرت لاحقًا، وليس حقيقة ثابتة.
لوحات تضيء العالم
من أشهر أعمال قان جوخ لوحة “ليلة النجوم” التي رسمها من نافذة مصحة للأمراض العقلية، و”عباد الشمس” التي تعكس ولعه بالأمل والضوء، و”غرفة نومه في آرل” التي تظهر حنينه للهدوء النفسي، وعلى الرغم من أنه لم يبع سوى لوحة واحدة طوال حياته، فإن أعماله اليوم تُعرض في أكبر المتاحف وتباع بملايين الدولارات.
نهاية مأساوية ونبوغ خالد
توفي فان جوخ في 29 يوليو 1890، منتحرًا برصاصة في صدره، بعد صراع طويل مع الاكتئاب والعزلة، ورغم أن والديه لم يتقبلوا حالته النفسية والبصرية بسهولة، إلا أن شقيقه “ثيو” كان داعمه الأول ماديًا ومعنويًا، حتى أن رسائلهما المتبادلة أصبحت من أهم الوثائق النفسية في تاريخ الفن.
قصة فان جوخ ليست فقط عن رجل أعمى أصبحت هوايته الرسم باستخدام الألوان الزاهية ، بل عن إنسان كان له مدرسته الخاصة، كان يرسم ما يراه وحده، كان فان جوخ يرسم وفي الوقت ذاته يكتب شهادة تفرده وأن الإعاقة البصرية أليست عجزا يحول دون قدرته على التعبير عما يجول في عقله وروحه، وبرهن على أن الموهبة نافذة لا تقوى إعاقة الجسد على اغلاقها.