فجر إعلان الفنان المصري كريم فهمي في أحد البرامج التلفزيونية، عن تشخيصه باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، حالة من الجدل في الوسط الفني والطبي في مصر، واعتبره البعض فرصة مهمة لرفع مستوى الوعي حول هذا الاضطراب العصبي النمائي، الذي لا يزال محاطًا بالكثير من المفاهيم الخاطئة.
إفصاح كريم فهمي العلني عن مرضه – حتى وإن كان في فترة سابقة – باعتباره شخصية عامة، خصوصا بعد تصريحاته بأن إحدى بناته مصابة أيضا بنفس المرض، يساهم بشكل فعال في كسر الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية والعصبية، ويشجع الأفراد والأسر على فهم حالتهم بشكل أفضل، ويفتح الباب لمناقشة جانب جوهري من الاضطراب، وهو المكون الوراثي، مما يحول الحديث من مجرد سلوك فردي إلى حالة طبية ذات أساس بيولوجي.
اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) هو أحد أكثر الاضطرابات العصبية التطورية شيوعا، والذي يشخص عادة في مرحلة الطفولة ويستمر في كثير من الحالات إلى مرحلة المراهقة والبلوغ.
هو ليس مجرد سلوك مكتسب أو نتيجة لسوء التربية، بل هو حالة بيولوجية ناتجة عن خلل في كمية الموصلات الكيميائية في الدماغ، مثل الدوبامين والنورأدرينالين، وخاصة في قشرة الفص الجبهي المسؤولة عن الوظائف التنفيذية.

يصنف الاضطراب إلى ثلاثة أنماط رئيسية بناء على الأعراض الغالبة التي تظهر على الفرد.
النمط الغالب عليه نقص الانتباه
يعرف هذا النمط في بعض الأحيان باسم «اضطراب نقص الانتباه» (ADD)، ويتميز بصعوبات في التركيز، والانتباه، والتنظيم دون وجود فرط حركة ظاهر، يعاني الأفراد من عدم الانتباه للتفاصيل، وارتكاب الأخطاء عن إهمال، وصعوبة في الحفاظ على التركيز أثناء المهام أو المحادثات، والنسيان، وصعوبة في إتباع التعليمات أو إتمام المهام. هذا النمط قد لا يتم ملاحظته بسهولة في الطفولة لأنه لا يترافق بسلوكيات مزعجة أو واضحة مثل فرط الحركة، مما قد يؤدي إلى تأخر التشخيص أو عدمه.
النمط الغالب عليه فرط الحركة والاندفاعية
يظهر هذا النمط بشكل أساسي من خلال أعراض فرط الحركة والتهور في التصرفات. تشمل الأعراض عدم القدرة على البقاء جالسا لفترات طويلة، والتململ، والركض في أماكن غير مناسبة، والتحدث المفرط. أما الاندفاعية فتتجلى في التصرف دون تفكير في العواقب، ومقاطعة الآخرين أثناء الحديث، وصعوبة انتظار الدور.
النمط المختلط
وهو النمط الأكثر شيوعا، ويجمع بين أعراض نقص الانتباه وفرط الحركة والاندفاعية، يتطلب تشخيص البالغين ظهور خمسة أعراض على الأقل من كل فئة من الفئتين (نقص الانتباه، وفرط الحركة والاندفاعية) لمدة لا تقل عن ستة أشهر.
العوامل السببية والوراثية
على الرغم من أن السبب الدقيق لاضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه لا يزال قيد البحث، إلا أن الأدلة العلمية تؤكد أن للعوامل الوراثية دورا حاسما، تشير الدراسات العائلية ودراسات التوائم والتبني إلى أن الاضطراب ينتشر بشكل كبير في العائلات، وقد أثبتت الأبحاث أن الوراثة تساهم بنسبة تتراوح بين 74% و 88% في قابلية الإصابة بالاضطراب، مما يجعله أحد أكثر الاضطرابات النفسية ذات الأساس الجيني قوة. هذا المكون الجيني القوي، والذي يتشابه في معدلاته بين الذكور والإناث، يمثل أساسا بيولوجيا للاضطراب.
إضافة إلى العوامل الوراثية، يمكن لبعض العوامل البيئية ومشكلات النمو أن تزيد من خطر الإصابة بالاضطراب، مثل التعرض للسموم البيئية كالرصاص في الطفولة المبكرة، أو وجود مشاكل أثناء فترة الحمل مثل تدخين الأم أو تعاطيها للكحول، أو انخفاض وزن المولود عند الولادة.
الفهم العلمي للسببية الوراثية للاضطراب يمثل نقطة تحول في النظرة المجتمعية له فبينما كان ينظر إلى أعراضه، مثل الفوضى والنسيان والعصبية، على أنها سمات شخصية سلبية أو نتيجة لأساليب تربوية خاطئة، تظهر الأبحاث أن الاضطراب هو في الواقع حالة بيولوجية ناتجة عن خلل كيميائي عصبي في الدماغ، هذا التناقض بين التصور العام والحقيقة العلمية يؤكد الحاجة الملحة إلى التوعية لتقليل الوصمة المرتبطة بالاضطراب، والإفصاحات العلنية، مثل التي قام بها الفنان كريم فهمي، تساهم في سد هذه الفجوة المعرفية، مما يساعد على تطبيع فكرة أن الاضطراب ليس عيبا شخصيا، بل حالة طبية تستدعي الفهم والتعاطف والدعم.
وفي سياق آخر توضح الدراسات أن نمط ظهور الأعراض يختلف بين الجنسين على الرغم من أن الأساس الوراثي للإصابة به متماثل، فبينما يغلب نمط فرط الحركة على الذكور، يكثر نمط نقص الانتباه لدى الإناث. هذا الاختلاف في المظهر السريري هو ما يفسر سبب عدم تشخيص الفتيات بالاضطراب بسهولة، حيث قد لا تظهر لديهن الأعراض الخارجية الصارخة المرتبطة بفرط الحركة، وغالبا ما يشخصن بحالات نفسية أخرى بشكل خاطئ، مما يؤدي إلى تأخر حصولهن على الدعم والعلاج المناسب. هذا التباين يسلط الضوء على أن المعايير التشخيصية التقليدية قد تكون متحيزة تاريخيا، مما يستدعي نهجا أكثر شمولية في التقييم والتشخيص.

الاضطرابات المصاحبة (Comorbidity)
يعتبر التداخل الكبير بين اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه واضطرابات أخرى سمة شائعة،تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 80% من البالغين المصابين بالاضطراب يعانون أيضا من حالة نفسية مصاحبة واحدة على الأقل. من أبرز هذه الاضطرابات المصاحبة ما يلي:
صعوبات التعلم: العديد من الأطفال والبالغين المصابين بالاضطراب لديهم أيضا صعوبات في التعلم، مثل عسر القراءة أو عسر الحساب. وعلى الرغم من أن صعوبات التعلم هي مشكلة منفصلة عن أعراض الاضطراب، إلا أن وجودهما معا يزيد من التحديات في الأداء الأكاديمي والمهني.
اضطرابات نفسية: يعاني العديد من المصابين من اضطرابات نفسية مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب ثنائي القطب. يمكن لاضطرابات القلق أن تزيد من حدة أعراض الاضطراب، بينما قد ينتج الاكتئاب عن شعور الفرد باليأس والإحباط بسبب فشله المتكرر في التحكم بأعراضه.
اضطراب طيف التوحد (ASD): هناك تداخل كبير بين الاضطرابين، حيث يصنف كلاهما ضمن الاضطرابات العصبية النمائية ويشتركان في التحديات المتعلقة بالوظائف التنفيذية.
من الأعراض إلى الإعاقة.. مفهوم «العجز الوظيفي»
التمييز بين الأعراض والعجز الوظيفي هو حجر الزاوية في فهم ما إذا كان اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه يعتبر إعاقة. الأعراض هي المؤشرات السريرية للمرض، مثل عدم الانتباه والاندفاعية. أما العجز الوظيفي فهو التأثير السلبي لهذه الأعراض على الأنشطة الحياتية اليومية وقدرة الفرد على تلبية توقعات بيئته، سواء في المدرسة، أو العمل، أو المنزل. ببساطة، ليس كل من لديه أعراض الاضطراب يعتبر معاقا، بل يجب أن تسبب هذه الأعراض «معاناة كبيرة» و»مشكلات» في مجالات الحياة المختلفة حتى يتم تصنيفها كعائق أو إعاقة.
يؤثر العجز الوظيفي الناجم عن اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه على مختلف جوانب حياة الفرد، مما يؤدي إلى تحديات كبيرة في الأداء الأكاديمي، والعلاقات الاجتماعية، والصحة العامة.
الأداء الأكاديمي والمهني: يواجه الأفراد صعوبات كبيرة في التركيز والتنظيم وإدارة الوقت، مما يؤثر على إنتاجيتهم وقدرتهم على إتمام المهام الطويلة، وقد يعمل الفرد لساعات أطول دون تحقيق الأهداف المرجوة، مما يؤدي إلى الإرهاق الوظيفي وضعف الأداء، وفي بعض الحالات قد يتسبب في فقدان الوظيفة أو صعوبات في المسار التعليمي والمهني.
العلاقات الاجتماعية والشخصية: يمكن للاندفاعية وعدم الانتباه أن يؤديا إلى توتر العلاقات مع الأهل، والأصدقاء، والشركاء، والزملاء. قد يواجه الأطفال المصابون بالاضطراب الرفض أو العزلة الاجتماعية في سن مبكرة، مما يترك لديهم شعورا عميقا بالحزن ويؤدي إلى ضعف الثقة بالنفس. يزداد خطر عدم استقرار العلاقات الزوجية وارتفاع معدلات الطلاق لدى البالغين المصابين بالاضطراب.
يعرض الاضطراب الأفراد لمخاطر صحية وسلوكية متزايدة. تزيد أعراض تشتت الانتباه من خطر حوادث السيارات، بينما تزيد الاندفاعية من احتمالية الانخراط في سلوكيات خطرة مثل تعاطي المخدرات والكحول أو الوقوع في مشاكل قانونية.
لا تؤدي التحديات الوظيفية الناتجة عن الاضطراب إلى فشل فردي منعزل، بل غالبا ما تخلق حلقة مفرغة من التحديات المترابطة تبدأ بضعف الوظائف التنفيذية الأساسية، مثل التخطيط وإدارة الوقت، مما يؤدي إلى فشل متكرر في المهام اليومية. هذا الفشل المستمر يولد مشاعر من الإحباط وضعف احترام الذات ، والتي بدورها يمكن أن تؤدي إلى تطور اضطرابات نفسية مصاحبة مثل الاكتئاب والقلق.
وجود هذه الاضطرابات يجعل من الصعب على الفرد التحكم في أعراض الاضطراب، مما يزيد من العجز الوظيفي، وتستمر الدائرة المفرغة. هذا الترابط يفسر لماذا يعاني نسبة كبيرة من البالغين المصابين بالاضطراب من حالات نفسية أخرى.

التصنيف القانوني والاجتماعي للإعاقة
تختلف التعريفات القانونية للإعاقة بين الدول، لكنها تشترك جميعها في التركيز على التأثير الوظيفي للحالة على حياة الفرد. فالاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، على سبيل المثال، تعرف الأشخاص ذوي الإعاقة بأنهم كل من يعانون من عاهات «قد تمنعهم لدى التعامل مع مختلف الحواجز من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين». هذا التعريف يضع التركيز على التفاعل بين الحالة الصحية للفرد والبيئة المحيطة به.
في الولايات المتحدة، يعرف قانون الأمريكيين ذوي الإعاقة (ADA) الإعاقة بأنها «إعاقة جسدية أو عقلية تحد بشكل كبير من واحد أو أكثر من الأنشطة الحياتية الرئيسية». ويؤكد القانون أن قائمة الإعاقات ليست حصرية، مما يعني أن تصنيف الحالة يعتمد على تأثيرها على حياة الفرد وليس على اسمها. وبالمثل، في بعض الدول العربية مثل الكويت، يصنف الشخص كذوي إعاقة بناء على «اعتلالات دائمة كلية أو جزئية تؤدي إلى قصور في قدراته البدنية أو العقلية… قد تمنعه من تأمين مستلزمات حياته للعمل أو المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع».
هل يعتبر ADHD إعاقة؟
بناء على المعايير الطبية والقانونية، يمكن القول إن نعم، يمكن تصنيف اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه كإعاقة، ولكن ليس بالضرورة في جميع الحالات، التصنيف كإعاقة يعتمد بشكل أساسي على مدى شدة أعراض الاضطراب وتأثيرها على الوظائف الحياتية الأساسية للفرد، فالحالات «الخفيفة» التي لا تحدث اضطرابا كبيرا في الحياة اليومية قد لا تعتبر إعاقة بالمعنى القانوني، بينما تعتبر الحالات التي تؤدي إلى عجز وظيفي كبير إعاقة مؤهلة للحصول على دعم وتسهيلات.
يكمن الفارق الجوهري في أن التشخيص الطبي هو تسمية لحالة مرضية، بينما الإعاقة هي توصيف للتأثير الوظيفي لهذه الحالة على قدرة الفرد على العيش والعمل. قد يحصل شخصان على نفس التشخيص الطبي، ولكن أحدهما قد ينجح في إدارة حياته المهنية والاجتماعية بفضل العلاج والدعم، بينما يواجه الآخر صعوبات هائلة في أبسط المهام اليومية، مما يجعل حالته تندرج تحت مفهوم الإعاقة.
هذا الاختلاف يوضح لماذا تتطلب القوانين، مثل قانون الأفراد ذوي الإعاقة في التعليم (IDEA) في الولايات المتحدة، إثبات أن الإعاقة «لها تأثير سلبي» على الأداء التعليمي للفرد ، بدلا من مجرد الاعتماد على التشخيص الطبي وحده. هذا المبدأ يؤكد أن الإعاقة ليست حالة ثابتة ومرتبطة بالتشخيص، بل هي حالة ديناميكية مرتبطة بالتأثير الوظيفي، مما يستدعي تقييما فرديا لكل حالة.