قبل الافتتاح الكبير.. الإعاقة والهوية والاندماج في مصر القديمة

قبل الافتتاح الكبير.. الإعاقة والهوية والاندماج في مصر القديمة

المحرر: محمود الغول - مصر
سنيب وزوجته سينيتيت، حوالي ٢٥٢٠ قبل الميلاد، المتحف المصري، القاهرة

يوفر افتتاح المتحف المصري الكبير فرصة غير مسبوقة لاستكشاف الطيف الكامل للحياة في وادي النيل القديم. يتجاوز هذا التقرير حدود المعالم الأثرية الشهيرة ليسلط الضوء على جانب حيوي، ولكنه غالبا ما يتم تجاهله، من هذه الحضارة.. وضع الأفراد ذوي الإعاقة وحقيقتهم المعيشية.

بالاعتماد على مجموعة واسعة من الأدلة الأثرية والفنية والنصية، سيظهر هذا التقرير أن مصر القديمة، على النقيض الصارخ من العديد من معاصريها، قد عززت نموذجا مجتمعيا فريدا وشاملا بشكل ملحوظ.

لم يكن الموقف المصري تجاه الإعاقة وليد صدفة تاريخية، بل كان نتيجة مباشرة لمعتقداته الفلسفية والدينية الأساسية، كان القبول منسوجا في النسيج الثقافي نفسه، حيث أسس مفهوم «ماعت» الخاص بالنظام الكوني والتوازن والعدالة عقدا اجتماعيا ينهى عن تهميش أي من أفراد المجتمع، حيث إن مثل هذه الأفعال من شأنها أن تدخل الفوضى في النظام المتوازن، وهذا الأساس الفلسفي يفسر لماذا كان الانسجام المجتمعي غالبا ما تكون له الأسبقية على مفاهيم الكمال الجسدي.

كانت أدبيات الحكمة بمثابة مرشد أخلاقي للسلوك القويم، فوفقا لتعاليم أمنموبي، هناك أوامر أخلاقية صارمة مثل: «لا تسخر من أعمى، ولا تهزأ من قزم، ولا تحتقر الرجل الأعرج». توحي هذه الصياغة بأن سوء معاملة شخص من ذوي الإعاقة هو إساءة للنظام الإلهي وللإله الخالق نفسه.
وما يميز النموذج المصري هو أن أساس الدمج لم يكن قانونيا بقدر ما كان أخلاقيا، فبينما وضعت حضارات أخرى، مثل بلاد الرافدين، قوانين تنظم جوانب من حياة ذوي الإعاقة، اعتمد المصريون على منظومة قيم داخلية.

وحسب تقرير لوكالة أنباء الشرق الأوسط نقلته وسائل إعلام محلية عديدة، قال باحث المصريات أحمد صالح أن ذوى الإعاقة في مصر القديمة لم يعانوا من التمييز ، وكانت تتم معاملتهم كأفراد عادية في المجتمع المصري، حيث قدمت نصائح بعدم إهانة صاحب الإعاقة أو الإقلال من كرامته، كما دمج المصريون القدماء ذوي الإعاقة في المجتمع وتوجيههم إلي الوظائف التي يثبت أنهم مهرة فيها إلى جانب محاولة علاجهم.

الألوهية والاختلاف الجسدي
يرى النموذج المصري الافتراض أن الكمال الجسدي مرادف للألوهية، ففي مصر القديمة شملت مجموعة الآلهة آلهة قوية ذات أجساد غير معيارية أبرزهم هو «بس»، وهو إله قزم ارتبط بالحماية والولادة والمرح والسرور، وكانت تمائم «بس» شائعة للغاية، مما يدل على أنه كان إلها منزليا محبوبا.
كما أن الأسطورة الأوزيرية تدور حول إله (أوزوريس) يقتل ويقطع جسده، لكنه يحقق الكمال الأبدي ويحكم العالم الآخر، مما يثبت أن الكمال يمكن تحقيقه على الرغم من الضرر الجسدي، وكان ينظر إلى الخصائص الجسدية على أنها «تجسيد للفرادة الجسدية» ويمكن تفسيرها على أنها «علامة إيجابية على البركات الإلهية».

تمثال لامرأة تعاني من التقزم، مصر، نقادة الأولى، حوالي 4000-3500 قبل الميلاد.
تمثال لامرأة تعاني من التقزم، مصر، نقادة الأولى، حوالي 4000-3500 قبل الميلاد.

الحياة في وادي النيل والاندماج الاجتماعي والمهني
استخدمت المبادئ الأخلاقية المصرية في واقع معاش من الاندماج الاجتماعي والمهني، وتتضمن رسوم ونقوش المقابر، التي كان القصد منها إدامة نسخة مثالية من الحياة إلى الأبد، باستمرار أفرادا يعانون من إعاقات واضحة. فحسب لوحة تظهر رجلا بساق ضامرة بسبب شلل الأطفال يتكئ على عكاز وهو يقدم البخور للآلهة، يشير هذا إلى المشاركة الكاملة في الحياة الدينية.
إدراج هؤلاء الأفراد في سياقات دائمة ومهمة مثل المقابر، يدل على أنهم كانوا يعتبرون جزءا لا يتجزأ من الأسرة والمجتمع.

لم يكن النموذج المصري للاندماج المهني قائما على الصدقة، بل على تحديد وتنمية المهارات الفريدة، فتصور العديد من مشاهد المقابر رجالا مكفوفين كعازفي هارب ومغنين في كل من السياقات الدينية والدنيوية. إن هذا يشير إلى استراتيجية مجتمعية «للاندماج البناء»، حيث تم توجيه ضعاف البصر إلى مهنة يمكن فيها صقل حواسهم الأخرى وذاكرتهم إلى درجة عالية من المهارة، مما يمنحهم دورا قيما وكريما.
كما تمتع الأفراد ذوو التقزم بمكانة خاصة وغالبا ما كانت متميزة، حيث عملوا كمرافقين شخصيين، وحراس للحيوانات، وبشكل حاسم، كحرفيين مهرة، خاصة في صناعة المجوهرات، حيث كانت أيديهم الصغيرة تعتبر ميزة.

بس إله قزم ارتبط بالحماية والولادة والمرح والسرو
بس إله قزم ارتبط بالحماية والولادة والمرح والسرو

أول طرف صناعي وظيفي في التاريخ
يكشف الجانب العملي للإعاقة في مصر القديمة عن فهم طبي وابتكار تكنولوجي رائد، إذ تكشف النصوص الطبية في بردية إيبرس (حوالي 1550 قبل الميلاد) عن نظام يمزج بين الملاحظة التجريبية والمعتقدات السحرية الدينية، حيث تصف حالات يمكن تفسيرها على أنها إعاقات عقلية أو إدراكية وتقترح علاجات لها.
وهذا النظام الطبي، على الرغم من بساطته، كان جزءا من ثقافة رعاية أوسع رفضت ترك الأطفال ذوي الإعاقة يموتون.

تنسب إلى مصر صناعة أول طرف صناعي وظيفي معروف في العالم، وهو «إصبع القاهرة»، وهو إصبع قدم كبير صناعي مصنوع من الخشب والجلد، ويعود تاريخه إلى حوالي 950-710 قبل الميلاد، وأكدت الدراسات العلمية وظيفته، حيث لم يكن مجرد قطعة تجميلية، بل كان تصميمه يساعد في التوازن والمشي.
ابتكار هذا الجهاز المتطور يدل على فهم متقدم للميكانيكا الحيوية ورغبة عميقة في استعادة الوظيفة، ويشير إلى أن الإيمان المصري الراسخ بضرورة أن يكون الجسد كاملا من أجل الرحلة إلى العالم الآخر قدم دافعا لاهوتيا قويا لهذا الابتكار الطبي.

الإعاقة على العرش
وفي تصريحات إعلامية  سابقة، أوضح الخبير الأثري المتخصص فى علم المصريات الدكتور أحمد عامر أن الحضارة المصرية القديمة كانت رائدة في التزامها بحقوق الإنسان، حيث لم تكن هناك أي تفرقة بين الأفراد، فقد وصل بعض من ذوي الهمم إلى أعلى المناصب في مصر القديمة، حتى أنهم تولوا كرسي العرش.

واستخدمت السير الذاتية لأفراد معينين من ذوي المكانة العالية كدليل قاطع على أن الإعاقة لم تكن عائقا أمام الوصول إلى أعلى مراتب السلطة والمجتمع، ويعد «سنب» مسؤولا رفيع المستوى في عصر الدولة القديمة (حوالي 2520 قبل الميلاد)، حمل العديد من الألقاب المرموقة، بما في ذلك «رئيس جميع أقزام القصر».
وأشهر قطعة أثرية له هي مجموعة تمثال تصوره مع زوجته، حيث وازن الفنان ببراعة التكوين بوضع طفليه مكان ساقيه، مما يخلق صورة عائلية متناغمة وكريمة. إن قصة حياة «سنب» – مسيرته المهنية القوية وزواجه من النخبة – تقدم الدليل الأكثر إقناعا على قبول واندماج الأفراد ذوي التقزم في مصر القديمة.

كما حكم الملك سيبتاح (الأسرة التاسعة عشرة) مصر لما يقرب من سبع سنوات على الرغم من إعاقته الجسدية الواضحة التي يكشف عنها تحليل موميائه، والتي تتفق مع آثار شلل الأطفال، مما كان سيجعله يمشي بعرج كبير، وهذا يدل على أن مؤسسة الملكية وهي أقوى منصب في البلاد كانت متاحة لفرد من ذوي الإعاقة.

الأسطورة الأوزيرية تدور حول إله (أوزوريس) يقتل ويقطع جسده لكنه يحقق الكمال الأبدي ويحكم العالم الآخر
الأسطورة الأوزيرية تدور حول إله (أوزوريس) يقتل ويقطع جسده لكنه يحقق الكمال الأبدي ويحكم العالم الآخر

إرث القبول والنظرة الحديثة
نخلص إلى أن المجتمع المصري القديم، بعيدا عن تهميش الأفراد ذوي الإعاقة، أظهر درجة فريدة وعميقة من القبول والاندماج والدعم العملي، وهذا الإطار لم يتم تقنينه في نظام قانوني رسمي، بل كان متجذرا بعمق في النسيج الديني والأخلاقي الأساسي للحضارة.
وتقف مصر في تناقض صارخ مع اليونان وروما القديمتين، حيث دعا فلاسفة مثل أفلاطون إلى نهج تحسين النسل واقتراح أن الأطفال الذين يعانون من تشوهات يجب إخفاؤهم أو تركهم للموت (التعريض). على النقيض، لا يوجد دليل على ممارسة التعريض في مصر، وكان الإطار الفلسفي والديني شاملا بشكل أساسي بدلا من أن يكون قائما على تحسين النسل.
ويكمن التحدي الآن في التناقض القوي والمحوري بين هذا الإرث القديم من الشمولية والمواقف السلبية والوصمة التي لا يزال الأفراد ذوو الإعاقة يواجهونها في مصر الحديثة.

 

المقالة السابقة
الأردن يعزز حقوق ذوي الإعاقة بتعليمات «الخبير المعتمد»

وسوم

أمثال الحويلة (19) إعلان عمان برلين (19) اتفاقية الإعاقة (18) الأردن (4) الإعاقة (3) الاستدامة (20) التحالف الدولي للإعاقة (21) التربية الخاصة (2) التشريعات الوطنية (20) التعاون العربي (20) التعليم (4) التعليم الدامج (4) التنمية الاجتماعية (20) التنمية المستدامة (3) التوظيف الدامج (19) الدمج الاجتماعي (19) الدمج الجامعي (3) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (19) الكويت (5) المتحف المصري الكبير (3) المجتمع المدني (19) المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (4) تكافؤ الفرص (19) تمكين (2) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (19) حقوق الإنسان (3) حقوق ذوي الإعاقة (3) دليل الكويت للإعاقة 2025 (18) ذوو الإعاقة (12) ذوو الاحتياجات الخاصة. (18) ذوي الإعاقة (7) ذوي الهمم (5) ريادة الأعمال (19) سياسات الدمج (19) شركاء لتوظيفهم (19) قمة الدوحة 2025 (19) كود البناء (20) لغة الإشارة (2) مؤتمر الأمم المتحدة (20) مبادرة تمكين (3) مجتمع شامل (20) مدرب لغة الإشارة (21) مصر (11) منظمة الصحة العالمية (21) وزارة الشؤون الاجتماعية (2)