مي محمد سيد.. ابنة مصر التي قهرت الظلام و«كلام الناس» بالقرآن

مي محمد سيد.. ابنة مصر التي قهرت الظلام و«كلام الناس» بالقرآن

المحرر: محمود الغول - مصر
مي محمد سيد

في قرية طوخ بمركز أبو كبير بمحافظة الشرقية في مصر، ولدت طفلة قدر لها أن ترى الدنيا بقلبها لا بعينيها. إنها مي محمد سيد، الفتاة الكفيفة التي تحولت من «مصدر شفقة» في عيون الجيران إلى أيقونة فخر. وفي الواقع، لم تكن رحلة مي سهلة، بل كانت معركة حقيقية ضد قلة الوعي والتنمر قبل أن تكون منافسة في حفظ القرآن.

هنا نغوص في تصريحات مي الصادقة والمؤثرة التي نشرتها وزارة الأوقاف عبر صفحتها الرسمية في فيسبوك. حيث تروي كيف واجهت جملة «هتعلموها ليه؟» بالعمل الصامت والإنجاز المدوي. مي محمد سيد، الطالبة الجامعية والحافظة لكتاب الله بالقراءات العشر، تعيد اليوم تعريف الإعاقة والإرادة.

رحلة مي محمد سيد

بدأت مي حديثها بتذكر الجمل القاسية التي كانت تتردد على مسامع أسرتها من أهل القرية. كانوا يقولون: «أهل القرية دايما يقولوا لأهلي إنتوا هتعلموها ليه؟ دي كفيفة يعني مابتشوفش.. فمش لازم إنها تتعلم». هذه الكلمات الجارحة كانت كفيلة بتحطيم أي عزيمة، لكنها لم تكسر مي.

علاوة على ذلك، كانت نظرات الشفقة تلاحقها في الشارع مصحوبة بعبارة «يا حرام هي مش عارفة تمشي». رغم ذلك، قررت مي ألا تأخذ بكلامهم، لأنها كانت تدرك في قرارة نفسها قدراتها الحقيقية. لذلك، حولت هذا التنمر إلى وقود يدفعها للأمام لإثبات عكس ما يظنون.

توجت مي رحلتها الطويلة والشاقة بحصولها على المركز الخامس في الفرع السادس (ذوي الهمم) بالمسابقة العالمية ال32 للقرآن الكريم. في الحقيقة، كان هذا الإنجاز هو الرد العملي والأقوى على كل من شكك في قدراتها يوما ما. مي محمد سيد لم تكتف بالمشاركة، بل انتزعت مركزا متقدما في أول مسابقة رسمية تدخلها في حياتها.

طالع: ظهرت كمذيعة محترفة.. طالبة كفيفة تُحاور رئيس جامعة سوهاج|فيديو

من المدهش أنها لم تدرجت في المسابقات المحلية أو الإقليمية، بل قفزت مباشرة إلى العالمية. هذا التحدي الكبير يكشف عن ثقة هائلة بالنفس وبما حفظته في صدرها. لذا، كان الفوز بالنسبة لها فرحة بالإنجاز  ومكافأة ربانية على تعب السنين.

من السابعة إلى القراءات العشر

بدأت رحلة مي مع كتاب الله في سن السابعة، وختمته كاملا وهي في الثانية عشرة من عمرها. لكن طموحها لم يتوقف عند مجرد الحفظ، بل قررت أن تغوص في بحر القرآن العميق. لذلك، اتجهت مباشرة لدراسة القراءات العشر، وهي مرحلة متقدمة وصعبة لا يصل إليها إلا القلة من الحفظة.

وفقا لما قالته في الفيديو، لم تكتف بما حققته، بل كانت دائما تسأل «إيه المرحلة اللي بعد كده؟». هذا الشغف المستمر بالتعلم هو السمة المميزة لشخصية مي التي لا تعرف الاكتفاء. بسبب ذلك، أصبحت اليوم مرجعا قرآنيا متحركا، رغم صغر سنها (20 عاما).

خلف هذه البطلة، تقف أسرة واعية رفضت الاستسلام لنظرة المجتمع القاصرة. حيث كان لوالدها الراحل (الذي توفي وهي في التاسعة) حلم كبير بأن تحفظ ابنته القرآن. رغم رحيله المبكر، ظل حلمه أمانة في عنق الأسرة، وتولى شقيقاها مصطفى وسيد ووالدتها المهمة من بعده. حسب الفيديو الذي نشرته وزارة الأوقاف المصرية في فيسبوك.

تصف مي إخوتها بأنهم «سبب كل حاجة حلوة في حياتها» بعد الوالد. إذ لم يكتفوا بالدعم المعنوي، بل كانوا يبحثون لها عن المشايخ ويشجعونها على إكمال المسيرة. حتى بعد الفوز العالمي، فاجأها شقيقها بقوله: «أنا هدخلك تفسير بقى»، ليؤكد أن طموح الأسرة لابنتهم الكفيفة لا سقف له.

مي محمد سيد وأهل الفضل

لم تنس مي أن تنسب الفضل لأهله، فذكرت بالاسم مشايخها الذين اعتبرتهم بمثابة الآباء. تحديدا، الشيخ عبد المنعم متولي محفظ القرآن، والشيخ السيد عبد الباسط معلم القراءات. هؤلاء الرجال لم يعلموها الحروف فقط، بل زرعوا فيها الثقة بأنها «الأولى دائما».

كان شيخها يقول لها: «إنتي أكتر حد ما شاء الله واخد مركز أول»، في وقت كان المجتمع يراها عاجزة. هذا التشجيع المستمر من أهل العلم كان الحصن الذي احتمت به مي من كلمات المحبطين. لذلك، هم شركاء أساسيون في صناعة هذه المعجزة.

بعد الفوز العالمي، تغيرت نغمة أهل القرية 180 درجة. فبدلا من عبارات الشفقة، أصبحت مي «حاجة كبيرة» ومصدر فخر للجميع. هذا التحول الجذري يثبت أن النجاح هو اللغة الوحيدة التي تجبر الجميع على الاحترام.

تقول مي: «دلوقتي بعد ما خدت المركز، لا.. مي دي بقت حاجة كبيرة بالنسبالهم». في الواقع، لم تتغير مي، فهي نفس الفتاة التي كانت تمشي في الشارع بالأمس، لكن بصيرة الناس هي التي تغيرت. لقد أجبرتهم مي بإنجازها على رؤية النور الذي بداخلها بدلا من الظلام الذي في عيونهم.

العلاقة مع القرآن.. الصاحب العزيز

وصفت مي علاقتها بالقرآن وصفا بديعا وإنسانيا للغاية، شبهته فيه بـ «الصاحب العزيز». حيث قالت: «القرآن بيزعل مني لما بيجي أوقات أكسل.. فاجي أراجعه ما بيرجعش بسهولة». هذا الوصف يعكس علاقة حية وروحانية تتجاوز مجرد الحفظ والتسميع.

استشهدت بقوله تعالى «وإنه لكتاب عزيز»، لتؤكد أن القرآن لا ينال إلا بالمجاهدة والوصل الدائم. لذلك، تعتبر مي أن مراجعة القرآن ليست واجبا دراسيا، بل هي «صيانة للصداقة» مع كتاب الله. هذه الفلسفة العميقة تكشف عن نضج روحي يسبق عمرها بسنوات.

رفضت مي نغمة العجز التي يوصم بها المكفوفون، وأكدت أن لديهم قدرات قد تفوق المبصرين. قالت بثقة: «الكفيف يعرف يقرأ ويكتب زي المبصر أهو.. وحفظ القرآن وأخد القراءات العشر». في رأيها، فقدان البصر ليس عائقا أمام التحصيل العلمي أو الإنجاز الديني.

بل ترى أن الله يعوض الكفيف بملكات أخرى تمكنه من التفوق إذا أحسن استغلالها. مي محمد سيد هي الدليل الحي على صحة كلامها؛ فهي تدرس في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وهي كلية تتطلب مهارات لغوية وفكرية عالية. إذن، الإعاقة هي خرافة في عقول من لا يرون الحقيقة.

خيركم من تعلم وعلم

تخطط مي لمستقبلها بوضوح تام، حيث ترى نفسها معلمة قرآن تخدم المجتمع طوال عمرها. استنادا لحديث النبي «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، تعتبر مي أن هذه هي أشرف مهنة يمكن أن تمتهنها. تقول: «شايفة إن أنا همضي عمري كله في خدمة كتاب الله.. ومفيش أجمل من القرآن».

شايفة إن أنا همضي عمري كله في خدمة كتاب الله.. ومفيش أجمل من القرآن

تؤمن مي بأن القرآن مكسب للدنيا والآخرة، وأن من يعيش معه «كسبان» في كل الأحوال. لذلك، تريد أن تنقل هذه التجربة الروحانية للآخرين، لتكون سببا في هدايتهم وسعادتهم. بذلك، تتحول من طالبة علم إلى منارة هدى.

ختمت مي حديثها برسالة نارية وملهمة لإخوتها من ذوي الهمم. قالت: «الإعاقة هي إرادة مش إعاقة.. ما ينفعش نقول إن إحنا عندنا إعاقة أصلا». في نظرها، الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ووضعه للإنسان في هذا الاختبار يعني أنه «قده».

ناشدتهم بالسعي والعمل وعدم انتظار النتائج أو الاستسلام للإحباط. قالت بحماس: «عايز تحفظ القرآن؟ يلا اجري احفظ.. عايز تدخل مسابقة؟ قدم وادخل». هذه الكلمات البسيطة تحمل في طياتها منهج حياة قويم للكفاح والنجاح. مي محمد سيد تقول لهم بلسان الحال والمقال: «أنا فعلتها، وأنتم أيضا تستطيعون».

في الختام، تظل قصة مي محمد سيد درسا قاسيا للمجتمع الذي يحكم بالمظاهر، ودرسا حانيا لكل من ابتلي في جسده. لقد أثبتت ابنة الشرقية أن النور الحقيقي هو نور القرآن الذي يضيء القلوب، وأن العمى الحقيقي هو عمى البصيرة عن رؤية قدرات الآخرين. باختصار، مي لم تحفظ القرآن فحسب، بل حفظها القرآن ورفعها مكانا عليا.

المقالة السابقة
أناقة كلاسيكية.. عرض أزياء لذوي الاحتياجات الخاصة بالأردن
المقالة التالية
الأزهر الشريف: تمكين ذوي الإعاقة واجب إنساني ورسالة دينية