هل أصبح سيئ السمعة؟.. مصطلح «دمج» يتحول إلى أداة للتنمر والسخرية

هل أصبح سيئ السمعة؟.. مصطلح «دمج» يتحول إلى أداة للتنمر والسخرية

المحرر: محمود الغول - مصر
الدمج هي عملية تهدف إلى انخراط الطلاب المعاقين في المجتمع

لا يمكن فهم حجم الأزمة إلا من خلال قصصها الشخصية، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تنتشر مقاطع فيديو لآباء وأمهات يعبرون عن ألمهم من كلمة «دمج» التي أصبحت أداة للسخرية.

تقول إحدى الأمهات بتأثر إنها كلما قرأت تعليقا يستخدم فيه المصطلح كإهانة، شعرت «بسيف دخل في قلبها»، هذه الكلمة التي تعني في حقيقتها برنامجا نبيلا لدمج الأطفال ذوي الإعاقات في المدارس مع أقرانهم، تحولت في الفضاء الرقمي إلى مصطلح مهين لوصف أي سلوك يعتبر «غريبا» أو «غير طبيعي».

يبرز هذا التناقض الجوهري صراعا أعمق في المجتمع وكيف يمكن لمصطلح يمثل جوهر العدالة الاجتماعية أن يتحول إلى أداة للتنمر والتحقير..

يمثل الدمج عملية شاملة تسعى للتغلب على الحواجز التي تحد من حضور المتعلمين ومشاركتهم وإنجازهم، بغض النظر عن اختلافاتهم أو قدراتهم، هذه الفلسفة قائمة على إتاحة الفرص المتكافئة للجميع، وتهدف إلى جعل الأشخاص ذوي الإعاقة جزءا مقبولا من النسيج المجتمعي، في السياق التعليمي، يعرف الدمج بأنه وضع الطلاب ذوي الإعاقة مع أقرانهم العاديين في البيئة الدراسية، مع توفير فرص تعلم قائمة على المساواة.

عمليات الدمج في مصر تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد
عمليات الدمج في مصر تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد

 

في مصر لم يأت مفهوم الدمج من فراغ، بل هو مدعوم بإطار قانوني وتشريعي يمثل القانون رقم 10 لسنة 2018 خطوة حاسمة في هذا الاتجاه، حيث يفرض نسبة قبول لذوي الإعاقة لا تقل عن 5% في المؤسسات التعليمية.

ويعتبر القرار الوزاري رقم 252 لسنة 2017 حجر الزاوية في تطبيق هذه السياسة، حيث يحدد متطلبات دقيقة للالتحاق، مثل اشتراط درجة ذكاء تتراوح بين 60 و 84 كحد أقصى للقبول في نظام الدمج التعليمي، وضرورة الحصول على تقارير طبية من جهات حكومية معتمدة مثل الهيئة العامة للتأمين الصحي أو المستشفيات الجامعية.

وتتعدد نماذج الدمج المتبعة، بدءا من الدمج المكاني الذي يلحق الطفل بفصل خاص داخل مدرسة عادية، مرورا بالدمج الوظيفي والاجتماعي الذي يتيح لهم المشاركة في الأنشطة المنهجية وغير المنهجية، وتوفر هذه النماذج الدعم من خلال غرف المصادر أو معلمي التربية الخاصة، مما يؤكد أن الدمج ليس مجرد وجود فيزيائي، بل هو عملية تتطلب تكييف البيئة التعليمية لتلبية احتياجات جميع الطلاب.

كيف تحولت الكلمة إلى سلاح؟

على النقيض من هذا الإطار القانوني والفلسفي، تحولت كلمة «دمج» في الخطاب الرقمي إلى أداة للسخرية والتحقير ففي سياق التنمر عبر الإنترنت، تلقى كلمة «دمج» كسبة مهينة لمن يقوم بتصرفات غير متوقعة أو ينظر إليه على أنه أقل ذكاء.
ويصنف هذا السلوك ضمن التنمر اللفظي وهو أحد أكثر أشكال التنمر انتشارا، حيث يمثل 40% من حالات التنمر في المدارس، ويرجع انتشار هذا النوع من التنمر إلى كونه لا يتطلب قوة بدنية، مما يجعله سهل الاستخدام عبر الإنترنت.

إساءة الاستخدام الواسعة لكلمة «دمج» كشتيمة تعكس فشلا ممنهجا في ترسيخ المعنى الحقيقي للمفهوم في الوعي العام، وعلى الرغم من أن الأطر القانونية للدمج موجودة منذ سنوات، إلا أن دلالته السلبية تستمر في النمو على الإنترنت، والفجوة بين التعريف الرسمي النبيل للمصطلح والاستخدام الشائع والقاسي هي مقياس مباشر لهذا الفشل، إذ أصبحت الكلمة وعاء يحمل الأحكام المسبقة المجتمعية ضد أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم «مختلفون»، مما يدل على أن الالتزامات القانونية لم تنجح بعد في التحول إلى تغيير ثقافي واجتماعي حقيقي.

دمج على الورق.. شهادات من الميدان

الأزمة الحقيقية تكمن في الفجوة الهائلة بين ما ينص عليه القانون وما يحدث على أرض الواقع، حيث يصف البعض نظام الدمج بأنه «على الورق فقط» ، إذ ترفض المدارس الخاصة والحكومية أحيانا قبول الطلاب ذوي الإعاقة، ويواجه أولياء الأمور رفضا صريحا أحيانا من مديري المدارس، مع عبارات قاسية مثل «لا يمكننا تحمل مسؤوليتهم»، وتتجاوز المشكلة مجرد الرفض ففي الحالات التي يتم فيها قبول الطالب، غالبا ما يجدون أنفسهم في بيئة غير مهيأة، حيث تفتقر المدارس إلى تطبيق المعايير القانونية اللازمة، مثل توفير الفصول في الطوابق الأرضية أو غرف المصادر.

ويضطر أولياء الأمور إلى الاعتماد على الدروس الخصوصية بسبب عدم توفير الوزارة لامتحانات بطريقة «برايل» للطلاب المكفوفين.

وتبرز التحديات أيضا من وجهة نظر المعلمين، فهم يشتكون من نقص التدريب اللازم للتعامل مع طلاب الدمج ، ويوضحون أن الافتقار إلى التأهيل يجعلهم غير قادرين على تقديم الرعاية المناسبة، ومع وجود فصول دراسية تتجاوز ال 50 طالبا، يصبح من المستحيل توفير الاهتمام الفردي المطلوب.
هذا الفشل المنهجي يضع المعلمين والطلاب في مواقف لا يمكن التعامل معها.

أسر الأطفال ذوي الإعاقات يعانون هذه الظاهرة
أسر الأطفال ذوي الإعاقات يعانون هذه الظاهرة

 

الخلل في النظام والتجاهل الاجتماعي

تتعدد أوجه القصور في تطبيق النظام، فقد تجاهل القرار الوزاري 252 لسنة 2017 توظيف خريجي التربية الخاصة المؤهلين، مما أدى إلى حدوث فجوة في الكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع هذه الفئات، كما يغيب توفير المرافق الداعمة الحاسمة مثل غرف المصادر، ونقص التمويل لمعلمي الظل، ويصل الأمر إلى حد الانتهاكات الصريحة، مثل وضع الطلاب ذوي الإعاقات الجسدية في فصول عليا دون توفير سبل وصول مناسبة، وهو ما يعد تهديدا لكرامتهم في القانون المصري.

هذه الإخفاقات الممنهجة داخل البيئة التعليمية تخلق بيئة خصبة للتجاهل الاجتماعي والتنمر، عندما لا تتم إدارة الدمج بشكل صحيح، يصبح الطلاب ذوو الإعاقة عرضة لسوء المعاملة من قبل أقرانهم، وهذا يعزز فكرة أن المشكلة ليست في الطلاب أنفسهم، بل في النظام التعليمي الذي يتركهم في بعض الأحيانعرضة للأذى، فالخبراء يصفون التنمر بأنه سلوك مكتسب ، وغالبا ما ينبع من نقص الوعي والتعاطف، ويمكن للمواقف السلبية للمعلمين غير المدربين أن تؤدي إلى «إقدام الأقران على التنمر».

عبارة «الدمج على الورق» هي تلخيص نقدي للقضية بأكملها، لأن الانفصال بين الأطر القانونية القوية وتطبيقها المائع يؤدي إلى واقع سلبي مشوه يغذي التحيز الاجتماعي والاعتداء اللغوي، فالدولة تسن القوانين ولكن الأمر يقابل أحيانا بعدم القدرةعلى توفير الموارد والتدريب اللازمين للمدارس والمعلمين.

وهذا يضع الطلاب ذوي الإعاقة في بيئة غير مجهزة وغالبا ما تكون معادية، وعندما يحدث ذلك، يشهد أقرانهم نظاما فاشلا وشخصا يكافح، وليس مثالا ناجحا للدمج. هذه التجربة السلبية تتحول إلى تصور اجتماعي سلبي، والذي يتم تلخيصه في مصطلح مهين مثل «دمج» وينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

الأثر النفسي على الأفراد والأسر

الثمن البشري لإساءة استخدام كلمة «دمج» باهظ ومؤلم، حيث تؤكد الدراسات أن التنمر وخاصة اللفظي، يترك آثارا مدمرة على الصحة النفسية للأطفال ذوي الإعاقة، ويمكن أن يؤدي إلى شعور بالخوف والقلق، وانسحاب من المشاركة في الأنشطة المدرسية، وتدني احترام الذات، وقد يدفع الضحايا نحو أفكار انتحارية. يضاف إلى ذلك أن العزلة الاجتماعية الناجمة عن التجاهل تزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب وتدهور المهارات الإدراكية.

لا يتوقف الألم عند الطفل بل يمتد ليشمل الأسرة بأكملها، حيث تعيش الأمهات والآباء في صراع دائم بين رغبتهم في دمج أطفالهم وحماية هؤلاء الأطفال من مجتمع ونظام غير مستعدين، فشهادة الأم التي وصفت سماع الكلمة كشعور «سيف دخل في قلبها» ليست مجرد تعبير عاطفي، بل هي انعكاس لألم حقيقي وشعور بالخيبة من فشل المجتمع في احتضان أطفالها.

هذه الظاهرة لا تتعلق فقط بكلمة «دمج»، بل بقضية مجتمعية أوسع تتمثل في تهميش أولئك الذين يختلفون، والحواجز التي تحول دون الدمج ليست في إعاقة الفرد، بل هي حواجز خارجية ترتبط بهيكلية المجتمع وممارساته.

التنمر اللفظي باستخدام كلمة «دمج» يخلق نبوءة تتحقق ذاتيا فالأداة نفسها التي كان من المفترض أن تمكن وتدمج الأفراد ، أصبحت مصدر العزلة والعار، مما يعزز الحواجز الاجتماعية والنفسية السلبية التي كان من المفترض أن يكسرها الدمج والألم الذي يعبر عنه الآباء والضرر النفسي المفصل في الدراسات ليس مجرد آثار جانبية؛ بل هي النتيجة الأساسية لمفهوم تم اختطافه واستخدامه كسلاح من قبل مجتمع غير مستعد لاحتضانه.

مبادرة أحسن صاحب لدمج ذوي الإعاقة في المجتمع
مبادرة أحسن صاحب لدمج ذوي الإعاقة في المجتمع

 

مبادرات حكومية وأهلية

رغم التحديات الكبيرة هناك جهود قائمة ومستمرة لمحاولة تصحيح المسار. ومن أبرز هذه الجهود مبادرة «دامج» الأممية في مصر، التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتركز على تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من خلال التكنولوجيا وتهدف المبادرة إلى رفع الوعي بأهمية استخدام التقنيات المساعدة، وتطوير أدوات إلكترونية ميسرة للتعامل مع الإعاقات المختلفة، مع مكافحة التنمر ضد هذه الفئة.

وعلى الصعيد الحكومي دشنت وزارة التضامن الاجتماعي مبادرة «أحسن صاحب» بالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة، بهدف تقليل العزلة الاجتماعية للأشخاص ذوي الإعاقة ودمجهم في مختلف المجالات مثل التطوع والتعليم والرياضة والثقافة. وتعمل هذه المبادرة على خلق بيئة داعمة ومتقبلة من خلال مشاركة آلاف المتطوعين.

وجود جهود منفصلة مثل مبادرة «دامج» الأممية التي تعالج التمكين التكنولوجي ومبادرة «أحسن صاحب» التي تعزز الاندماج الاجتماعي، يدل على أن الحل يتطلب نهجا شاملا ومتعدد الأوجه، فجهود التوعية وحدها لا يمكنها إصلاح نظام تعليمي فاشل، كما أن الإصلاحات القانونية لا يمكنها تغيير المواقف الاجتماعية المتحيزة.

المقالة السابقة
فنان شهير يكشف إصابته وابنته باضطراب عصبي.. تعرف على الأعراض
المقالة التالية
التوحد.. اختلاف وإعاقة ومرض في شخص واحد

وسوم

أصحاب الهمم (45) أمثال الحويلة (392) إعلان عمان برلين (395) اتفاقية الإعاقة (540) الإعاقة (102) الاستدامة (911) التحالف الدولي للإعاقة (887) التشريعات الوطنية (707) التعاون العربي (419) التعليم (55) التعليم الدامج (55) التمكين الاقتصادي (65) التنمية الاجتماعية (909) التنمية المستدامة. (60) التوظيف (46) التوظيف الدامج (701) الدمج الاجتماعي (615) الدمج المجتمعي (131) الذكاء الاصطناعي (69) العدالة الاجتماعية (56) العقد العربي الثاني لذوي الإعاقة (423) الكويت (66) المجتمع المدني (897) الولايات المتحدة (51) تكافؤ الفرص (896) تمكين (62) حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (504) حقوق الإنسان (61) حقوق ذوي الإعاقة (75) دليل الكويت للإعاقة 2025 (369) ذوو الإعاقة (124) ذوو الاحتياجات الخاصة. (869) ذوي الإعاقة (435) ذوي الهمم (45) ريادة الأعمال (382) سياسات الدمج (882) شركاء لتوظيفهم (377) قمة الدوحة 2025 (530) كود البناء (371) لغة الإشارة (47) مؤتمر الأمم المتحدة (331) مجتمع شامل (889) مدرب لغة الإشارة (580) مصر (42) منظمة الصحة العالمية (600)