جسور- فاطمة الزهراء بدوي
وُلد أندريا بوتشيلي في الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1958، في قرية لاياتيكو بتوسكانا الإيطالية. منذ لحظاته الأولى في الحياة، والجدل يسبق خطواته. الأطباء أبلغوا والديه بأن الطفل القادم يعاني من مشكلات خلقية في العين. الأهل اختاروا الإبقاء عليه، رغم التوصيات الطبية.. داخل منزل ريفي تحيطه التلال، نشأ الطفل وسط بيئة متواضعة، محاطًا بالموسيقى، خصوصًا ألحان فرانكو كوريلي وأغاني إلفيس بريسلي.
فقد بوتشيلي بصره كليًا في الثانية عشرة، بعد إصابة قوية في الرأس أثناء لعب كرة القدم. الحادث أنهى علاقته بالضوء، لكنه فتح أبوابًا أخرى للحس والتأمل. بدأ في تعلم العزف على البيانو في سن صغيرة، ثم التحق بمدرسة داخلية للمكفوفين، حيث تشرب تقنيات الغناء الكلاسيكي، وتعلم الغناء بلغات متعددة، منها الألمانية والفرنسية واللاتينية.
رغم شغفه بالفن، اختار دراسة القانون في جامعة بيزا. عمل لفترة قصيرة في مجال المحاماة، مستخدمًا أجهزة مخصصة لطباعة الوثائق بطريقة بريل. القرار المهني لم يُلغِ تعلقه بالغناء. ففي المساء، يغني في الحانات، ويشارك في مسابقات صغيرة، بصوت جمع بين نعومة الأوبرا وصدق الأغنية الشعبية.
بداية مسيرته الحقيقية جاءت حين سمع المنتج الإيطالي زوكيرو تسجيلاً له، فطلب منه أداء نسخة تجريبية من أغنية Miserere، والتي كانت مخصصة للمغني الأسطوري لوتشيانو بافاروتي. عند الاستماع إلى التسجيل، طلب بافاروتي بقاء صوت أندريا في النسخة النهائية. من تلك اللحظة، بدأ اسمه يتردد في أوساط الموسيقى العالمية.
أصدر ألبومه الأول عام 1994 بعنوان Il Mare Calmo della Sera. حقق الألبوم نجاحًا لافتًا، ما دفعه إلى إطلاق أعمال لاحقة أكثر جرأة في المزج بين الأوبرا والموسيقى الحديثة. ألبوم Romanza الصادر عام 1997 حصد مبيعات قياسية، وتصدرت أغنيته Con te partirò قوائم الاستماع في أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية. الأغنية تحولت إلى نشيد عالمي، واستُخدمت في مناسبات رياضية، وجنائز، واحتفالات رسمية.
يتميز صوت بوتشيلي بعمق نغمي فريد، يجمع بين الانضباط الأكاديمي والانفعال الشخصي. يستطيع الانتقال من أداء أريّات كلاسيكية مثل Nessun Dorma، إلى أغنيات شعبية مثل Vivo per lei، دون فقدان هويته الصوتية. جمهوره لا يقتصر على محبي الأوبرا، إذ استطاع بناء قاعدة جماهيرية تتنوع ثقافيًا وجغرافيًا، بسبب قدرته على ترجمة المشاعر بصوته.
لم تتوقف إنجازاته عند حدود الفن، حيث أسس عام 2011 مؤسسة خيرية تحمل اسمه، هدفها دعم التعليم والرعاية الصحية في المجتمعات المهمشة. ركزت المؤسسة على بناء المدارس وتقديم المنح للطلاب في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. حضوره الإنساني حظي بتقدير عالمي، وتلقى تكريمات من جهات ثقافية ودينية متعددة.
في أوقات الأزمات، برز حضوره بشكل لافت. خلال جائحة كورونا، قدم حفلاً منفردًا من كاتدرائية دومو في ميلانو، نُقل مباشرة للعالم. الحفل حمل رسالة عزاء وأمل في وقت كانت فيه البشرية تبحث عن صوت يشبه صمتها الداخلي.
رغم شهرة اسمه، ظل متحفظًا تجاه الظهور الإعلامي غير المرتبط بالفن. اختار الابتعاد عن الصخب، وفضل بناء مسيرة تعتمد على التراكم والاتساق.. تعامل مع الشهرة بوصفها وسيلة لنقل الجمال، لا غاية بحد ذاتها.
حياته الخاصة ظلت بعيدة عن الجدل. فاختار أن يعيش بهدوء، وسط أسرته، محتفظًا بمعتقداته الكاثوليكية، دون استخدام الفن كمنصة للخطابة أو التحريض. شارك في احتفالات بابوية، وغنى أمام قادة دول، لكنه لم يربط فنه بالسياسة أو النزاعات الثقافية.
صعود بوتشيلي لم يكن وليد الموهبة وحدها، حيث اجتهد في دراسة الموسيقى، تمرن لسنوات، وواجه صعوبات تقنية وصحية. قصته أكبر من مجرد حكاية شخص تغلب على الإعاقة، لكنها قصة فنان أعاد تعريف الكمال الفني من خلال النقص، وأثبت أن الصمت يمكن أن يخلق صوتًا عالميًا.
في كل مرة يغني، يفتح نافذة على عالم موازٍ، لا تُقاس فيه القيمة بالبصر، ولكن بالبصيرة. صوته بمثابة جسر، يربط الناس بما هو أعمق من الكلمات، وأصدق من الرؤية. أندريا بوتشيلي لا يُدرس كمغنٍ، بل يُحتفى به كمثال على اتساع التجربة الإنسانية حين تستند إلى الشغف والانضباط والصدق.